وفي كلمة (بَيْنَكُمُ) معنى آخر ، وهو أن الموت يأتي على آحادهم تداولا وتناوبا ، فلا يفلت واحد منهم ولا يتعين لحلوله صنف ولا عمر فآذن ظرف (بين) بأن الموت كالشيء الموضوع للتوزيع لا يدري أحد متى يصيبه قسطه منه ، فالناس كمن دعوا إلى قسمة مال أو ثمر أو نعم لا يدري أحد متى ينادى عليه ليأخذ قسمه ، أو متى يطير إليه قطّه ولكنه يوقن بأنه نائله لا محاله.
وبهذا كان في قوله : (بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) استعارة مكنية إذ شبه الموت بمقسوم ورمز إلى المشبه به بكلمة (بَيْنَكُمُ) الشائع استعمالها في القسمة ، قال تعالى : (أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ) [القمر : ٢٨]. وفي هذه الاستعارة كناية عن كون الموت فائدة ومصلحة للناس إما في الدنيا لئلا تضيق بهم الأرض والأرزاق وإما في الآخرة فللجزاء الوفاق.
وتقديم المسند إليه على المسند الفعلي لإفادة تقوّي الحكم وتحقيقه ، والتحقيق راجع إلى ما اشتمل عليه التركيب من فعل (قَدَّرْنا) وظرف (بَيْنَكُمُ) في دلالتهما على ما في خلق الموت من الحكمة التي أشرنا إليها.
وقرأ الجمهور (قَدَّرْنا) بتشديد الدال. وقرأه ابن كثير بالتخفيف وهما بمعنى واحد ، فالتشديد مصدره التقدير ، والتخفيف مصدره القدر.
(وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (٦١)).
هذا نتيجة لما سبق من الاستدلال على أن الله قادر على الإحياء بعد الموت فكان مقتضى الظاهر أن يعطف بفاء التفريع ويترك عطفه فعدل عن الأمرين ، وعطف بالواو عطف الجمل فيكون جملة مستقلة مقصودا لذاته لأن مضمونه يفيد النتيجة ، ويفيد تعليما اعتقاديا ، فيحصل الإعلام به تصريحا وتعريضا ، فالصريح منه التذكير بتمام قدرة الله تعالى وأنه لا يغلبه غالب ولا تضيق قدرته عن شيء ، وأنه يبدلهم خلقا آخر في البعث مماثلا لخلقهم في الدنيا ، ويفيد تعريضا بالتهديد باستئصالهم وتعويضهم بأمة أخرى كقوله تعالى : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ* وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) [إبراهيم : ١٩ ، ٢٠] ولو جيء بالفاء لضاقت دلالة الكلام عن المعنيين الآخرين.
والسبق : مجاز من الغلبة والتعجيز لأن السبق يستلزم ان السابق غالب للمسبوق ، فالمعنى : وما نحن بمغلوبين ، قال الفقعسي مرّة بن عداء :
كأنّك لم تسبق من الدهر مرة |
|
إذا أنت أدركت الذي كنت تطلب |