ولما كان علمهم بالنشأة الأولى كافيا لهم في إبطال إحالتهم النشأة الثانية رتب عليه من التوبيخ ما لم يرتب مثله على قوله : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) [الواقعة : ٦٠ ، ٦١] فقال : (فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) ، أي هلا تذكرتم بذلك فأمسكتم عن الجحد ، وهذا تجهيل لهم في تركهم قياس الأشباه على أشباهها ، ومثله قوله آنفا : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) [الواقعة : ٥٧].
وجيء بالمضارع في قوله : (تَذَكَّرُونَ) للتنبيه على أن باب التذكر مفتوح فإن فاتهم التذكر فيما مضى فليتداركوه الآن.
وقرأ الجمهور (النَّشْأَةَ) بسكون الشين تليها همزة مفتوحة مصدر نشأ على وزن المرة وهي مرة للجنس. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحده بفتح الشين بعدها ألف تليها همزة ، وهو مصدر على وزن الفعالة على غير قياس ، وقد تقدم في سورة العنكبوت.
[٦٣ ، ٦٤] (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (٦٣) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (٦٤))
انتقال إلى دليل آخر على إمكان البعث وصلاحية قدرة الله له بضرب آخر من ضروب الإنشاء بعد العدم.
فالفاء لتفريع ما بعدها على جملة : (نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ) [الواقعة : ٥٧] كما فرع عليه قوله : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) [الواقعة : ٥٨] ليكون الغرض من هذه الجمل متحدا وهو الاستدلال على إمكان البعث ، فقصد تكرير الاستدلال وتعداده بإعادة جملة (أَفَرَأَيْتُمْ) وإن كان مفعول فعل الرؤية مختلفا وسيجيء نظيره في قوله بعده (أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ) [الواقعة : ٦٨] وقوله : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ) [الواقعة : ٧١].
وإن شئت جعلت الفاء لتفريع مجرد استدلال على استدلال لا لتفريع معنى معطوفها على معنى المعطوف عليه ، على أنه لما آل الاستدلال السابق إلى عموم صلاحية القدرة الإلهية جاز أيضا أن تكون هذه الجملة مرادا بها تمثيل بنوع عجيب من أنواع تعلقات القدرة بالإيجاد دون إرادة الاستدلال على خصوص البعث فيصح جعل الفاء تفريعا على جملة (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ) من حيث إنها اقتضت سعة القدرة الإلهية.
ومناسبة الانتقال من الاستدلال بخلق النسل إلى الاستدلال بنبات الزرع هي التشابه البيّن بين تكوين الإنسان وتكوين النبات ، قال تعالى : (وَاللهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً) [نوح : ١٧].