ويستلزم ذلك انفراده تعالى بصفة الوجود لأنه لو كان غير الله واجبا وجوده لما كان الله موصوفا بالأولية ، فالموجودات غير الله ممكنة ، والممكن لا يتصف بالأولية المطلقة ، فلذلك تثبت له الوحدانية ، ثم هذه الأولية في الوجود تقتضي أن تثبت لله جميع صفات الكمال اقتضاء عقليا بطريق الالتزام البيّن بالمعنى الأعمّ وهو الذي يلزم من تصور ملزومه وتصوّره الجزم بالملازمة بينهما.
وأما وصف (الْآخِرُ) فهو ضد الأول ، فأصله : هو المسبوق بموصوف بصفة متحدث عنها في الكلام أو مشار إليها فيه بما يذكر من متعلق به ، أو تمييزه ، على نحو ما تقدم في قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ) كقوله تعالى : (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ) [الأعراف : ٣٨] أي أخراهم في الادّراك في النار ، وقول النبيصلىاللهعليهوسلم : «آخر أهل الجنة دخولا الجنة ...» إلخ ، وقول الحريري في المقامة الثانية «وجلس في أخريات الناس» ، أي الجماعات الأخريات في الجلوس ، وهو وصف نسبيّ.
ووصف الله تعالى بأنه (الْآخِرُ) بعد وصفه بأنه (الْأَوَّلُ) مع كون الوصفين متضادّين يقتضي انفكاك جهتي الأولية والآخرية ، فلما تقرر أن كونه الأول متعلق بوجود الموجودات اقتضى أن يكون وصفه ب (الْآخِرُ) متعلقا بانتقاض ذلك الوجود ، أي هو الآخر بعد جميع موجودات السماء والأرض ، وهو معنى قوله تعالى : (نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) [مريم : ٤٠] وقوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٨٨].
فتقدير المعنى : والآخر في ذلك أي في استمرار الوجود الذي تقرر بوصفه بأنه الأول. وليس في هذا إشعار بأنه زائل ينتابه العدم ، إذ لا يشعر وصف الآخر بالزوال لا مطابقة ولا التزاما ، وهذا هو صفة البقاء في اصطلاح المتكلمين. قال معنى (الْآخِرُ) إلى معنى «الباقي» ، وإنما أوثر وصف (الْآخِرُ) بالذكر لأنه مقتضى البلاغة ليتم الطباق بين الوصفين المتضادين ، وقد علم عند المتكلمين أن البقاء غير مختص بالله تعالى وأنه لا ينافي الحدوث على خلاف في تعيين الحوادث الباقية ، بخلاف وصف القدم فإنه مختص بالله تعالى ومتناف مع الحدوث.
واعلم أن في قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ) دلالة قصر من طريق تعريف جزأي الجملة.
فأما قصر الأولية على الله تعالى في صفة الوجود فظاهر ، وأما قصر الآخرية عليه في ذلك وهو معنى البقاء ، فإن أريد به البقاء في العالم الدنيوي عرض إشكال المتعارض بما