الحياة وسيلة لبلوغ النفوس إلى ما هيّأها الله له من العروج إلى سمو الملكيّة كما دل عليه قوله: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة : ٣٠] ، فكان نظام هذه الحياة على أن تجري أمور الناس فيها على حسب تعاليم الهدى للفوز بالحياة الأبدية في النعيم الحق بعد الممات والبعث ، فإذا الناس قد حرفوها عن مهيعها ، وقد تضمن ذلك قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل : ٩٧].
(كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً).
يجوز أن يكون في موضع خبر من مبتدأ محذوف ، أي هي كمثل غيث فتكون الجملة استئنافا ، وحذف المسند إليه من النوع الذي سماه السكاكي «متابعة الاستعمال».
ويجوز أن يكون الكاف في موضع الحال و (كَمَثَلِ) معناه كحال ، أي حال الحياة الدنيا كحال غيث إلخ ، فشبهت هيئة أهل الدنيا في أحوالهم الغالبة عليهم والمشار إلى تنويعها بقوله : (لَعِبٌ وَلَهْوٌ) إلى آخره بهيئة غيث أنبت زرعا فأينع ثم اصفر ثم اضمحلّ وتحطم ، أي تشبيه هيئة هذه الأحوال الغالبة على الناس في الحياة في كونها محبوبة للناس مزهية لهم وفي سرعة تقضيها بهيئة نبات جديد أنبته غيث فاستوى واكتمل وأعجب به من رآه فمضت عليه مدة فيبس وتحطم.
والمقصود بالتمثيل هو النبات ، وإنما ابتدئ بغيث تصويرا للهيئة من مبادئها لإظهار مواقع الحسن فيها لأن ذلك يكتسب منه المشبه حسنا كما فعل كعب بن زهير في تحسين أوصاف الماء الذي مزجت به الراح في قوله :
شجت بذي شبم من ماء محنية |
|
صاف بأبطح أضحى وهو مشمول |
تنفي الرياح القذى عنه وأفرطه |
|
من صوب سارية بيض يعاليل |
وعن ابن مسعود «أن الكفار : الزرّاع ، جمع كافر وهو الزارع لأنه يكفر الزريعة بتراب الأرض ، والكفر بفتح الكاف الستر ، أي ستر الزريعة ، وإنما أوثر هذا الاسم هنا وقد قال تعالى في سورة الفتح [٢٩] : (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) ، قصدا هنا للتورية بالكفار الذين هم الكافرون بالله لأنهم أشد إعجابا بمتاع الدنيا إذ لا أمل لهم في شيء بعده. وقال جمع من المفسرين : الكفار جمع الكافر بالله لأنهم قصروا إعجابهم على الأعمال ذات الغايات الدنيا دون الأعمال الدينية ، فذكر الكفار تلويح إلى أن المثل مسوق إلى جانبهم أوّلا.