ليشكروه بذلك الثناء كما في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) [الفاتحة : ٢].
(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩))
لما أشعر قوله : (فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) [الذاريات : ٤٨] بأن في ذلك نعمة على الموجودات التي على الأرض ، أتبع ذلك بصفة خلق تلك الموجودات لما فيه من دلالة على تفرد الله تعالى بالخلق المستلزم لتفرده بالإلهية فقال : (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) والزوج : الذكر والأنثى. والمراد بالشيء : النوع من جنس الحيوان. وتثنية زوج هنا لأنه أريد به ما يزوج من ذكر وأنثى.
وهذا الاستدلال عليهم بخلق يشاهدون كيفياته وأطواره كلما لفتوا أبصارهم ، وقدحوا أفكارهم ، وهو خلق الذكر والأنثى ليكون منهما إنشاء خلق جديد يخلف ما سلفه وذلك أقرب تمثيل لإنشاء الخلق بعد الفناء. وهو البعث الذي أنكروه لأن الأشياء تقرّب بما هو واضح من أحوال أمثالها.
ولذلك أتبعه بقوله : (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) ، أي تتفكرون في الفروق بين الممكنات والمستحيلات ، وتتفكرون في مراتب الإمكان فلا يختلط عليكم الاستبعاد وقلة الاعتياد بالاستحالة فتتوهموا الغريب محالا.
فالتذكر مستعمل في إعادة التفكر في الأشياء ومراجعة أنفسهم فيما أحالوه ليعلموا بعد إعادة النظر أن ما أحالوه ممكن ولكنهم لم يألفوه فاشتبه عليهم الغريب بالمحال فأحالوه فلما كان تجديد التفكر المغفول عنه شبيها بتذكر الشيء المنسي أطلق عليه (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). وهذا في معنى قوله تعالى : (وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ* وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) [الواقعة : ٦٠ ـ ٦٢] فقد ذيل هنالك بالحث على التذكر ، كما ذيل هنا برجاء التذكر ، فأفاد أن خلق الذكر والأنثى من نطفة هو النشأة الأولى وأنها الدالة على النشأة الآخرة.
وجملة (لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) تعليل لجملة (خَلَقْنا زَوْجَيْنِ) أي رجاء أن يكون في الزوجين تذكر لكم ، أي دلالة مغفول عنها. والقول في صدور الرجاء من الله مبين عنه قوله تعالى : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) في سورة البقرة [٥٢].
[٥٠ ، ٥١] (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ