ثم إن اعتراف الخلق بوحدانية الله يقشع تكذيبهم بالرسول صلىاللهعليهوسلم لأنهم ما كذّبوه إلا لأنه دعاهم إلى نبذ الشرك الذي يزعمون أنه لا يسع أحدا نبذه ، فإذا انقشع تكذيبهم استتبع انقشاعه امتثال الشرائع التي يأتي بها الرسول صلىاللهعليهوسلم إذا آمنوا بالله وحده أطاعوا ما بلّغهم الرسول صلىاللهعليهوسلم عنه ، فهذا معنى تقتضيه عبادة الله بدلالة الالتزام ، وذلك هو ما سمي بالعبادة بالإطلاق المصطلح عليه في السنّة في نحو قوله : «أن تعبد الله كأنك تراه» ؛ وليس يليق أن يكون مرادا في هذه الآية لأنه لا يطرد أن يكون علة لخلق الإنسان فإن التكاليف الشرعية تظهر في بعض الأمم وفي بعض العصور وتتخلف في عصور الفترات بين الرسل إلى أن جاء الإسلام ، وأحسب أن إطلاق العبادة على هذا المعنى اصطلاح شرعي وإن لم يرد به القرآن لكنه ورد في السنة كثيرا وأصبح متعارفا بين الأمة من عهد ظهور الإسلام.
وأن تكاليف الله للعباد على ألسنة الرسل ما أراد بها إلا صلاحهم العاجل والآجل وحصول الكمال النفساني بذلك الصلاح ، فلا جرم أنّ الله أراد من الشرائع كمال الإنسان وضبط نظامه الاجتماعي في مختلف عصوره. وتلك حكمة إنشائه ، فاستتبع قوله : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أنه ما خلقهم إلا لينتظم أمرهم بوقوفهم عند حدود التكاليف التشريعية من الأوامر والنواهي ، فعبادة الإنسان ربّه لا تخرج عن كونها محقّقة للمقصد من خلقه وعلّة لحصوله عادة.
وعن مجاهد وزيد بن أسلم تفسير قوله : (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) بمعنى : إلّا لآمرهم وأنهاهم. وتبع أبو إسحاق الشاطبي هذا التأويل في النوع الرابع من كتاب المقاصد من كتابه عنوان التعريف «الموافقات» وفي محمل الآية عليه نظر قد علمته فحققه.
وما ذكر الله الجن هنا إلا لتنبيه المشركين بأن الجن غير خارجين عن العبودية لله تعالى. وقد حكى الله عن الجن في سورة الجن قول قائلهم : (وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) [الجن : ٤].
وتقديم الجن في الذكر في قوله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) للاهتمام بهذا الخبر الغريب عند المشركين الذين كانوا يعبدون الجن ، ليعلموا أن الجن عباد لله تعالى ، فهو نظير قوله : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ) [الأنبياء : ٢٦].
وجملة (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) تقرير لمعنى (إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) بإبطال بعض العلل والغايات التي يقصدها الصانعون شيئا يصنعونه أو يتخذونه ، فإن المعروف في العرف أن من يتخذ شيئا إنما يتخذه لنفع نفسه ، وليست الجملة لإفادة