وقد صيغ نظم الكلام في هذه الآية على ما يناسب الانتقال من غرض إلى غرض وذلك بما نهّي به من شبه التذييل بقوله : (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) إذ تمت به الفاصلة.
(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢))
(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا).
إضراب انتقال دعا إليه ما في الاستفهام الإنكاري المقدّر بعد (أَمْ) من معنى التعجيب من حالهم كيف يقولون مثل ذلك القول السابق ويستقر ذلك في إدراكهم وهم يدّعون أنهم أهل عقول لا تلتبس عليهم أحوال الناس فهم لا يجهلون أن محمدا صلىاللهعليهوسلم ليس بحال الكهان ولا المجانين ولا الشعراء وقد أبى عليهم الوليد بن المغيرة أن يقول مثل ذلك في قصة معروفة.
قال الزمخشري : وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنهى والمعنى : أم تأمرهم أحلامهم المزعومة بهذا القول.
والإشارة في قوله : (بِهذا) إلى المذكور من القول المعرّض به في قوله : (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) [الطور : ٢٩] ، والمصرح به في قوله : (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) [الطور : ٣٠] ، وهذا كما يقول من يلوم عاقلا على فعل فعله ليس من شأنه أن يجهل ما فيه من فساد : أعاقل أنت؟ أو هذا لا يفعله عاقل بنفسه ، ومنه ما حكى الله عن قوم شعيب من قولهم له : (إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ) [هود : ٨٧].
والحلم : العقل ، قال الراغب : المانع من هيجان الغضب. وفي «القاموس» هو الأناة. وفي «معارج النور» : والحلم ملكة غريزية تورث لصاحبها المعاملة بلطف ولين لمن أساء أو أزعج اعتدال الطبيعة.
ومعنى إنكار أن تأمرهم أحلامهم بهذا أن الأحلام الراجحة لا تأمر بمثله ، وفيه تعريض بأنهم أضاعوا أحلامهم حين قالوا ذلك لأن الأحلام لا تأمر بمثله فهم كمن لا أحلام لهم وهذا تأويل ما روي أن الكافر لا عقل له (١). قالوا وإنما للكافر الذهن والذهن يقبل العلم جملة ، والعقل يميز العلم ويقدر المقادير لحدود الأمر والنهي.
__________________
(١) رواه القرطبي عن الحكيم الترمذي صاحب «نوادر الأصول».