البعث ، فيكون في معنى قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ* خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ* يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ* إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) [الطارق : ٥ ـ ٨] وقوله : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) [الأنبياء : ١٠٤] ونحو ذلك من الآيات.
ومعنى (شَيْءٍ) على هذا الوجه : الموجود فغير شيء : المعدوم ، والمعنى : أخلقوا من عدم. ويجوز أن تكون (من) للتعليل فيكون الاستفهام المقدر بعد (أم) إنكاريا ، ويكون اسم (شَيْءٍ) صادقا على ما يصلح لمعنى التعليل المستفاد من حرف (من) التعليلية ، والمعنى : إنكار أن يكون خلقهم بغير حكمة ، وهذا إثبات أن البعث واقع لأجل الجزاء على الأعمال ، بأن الجزاء مقتضى الحكمة التي لا يخلو عنها فعل أحكم الحكماء ، فيكون في معنى قوله تعالى : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون : ١١٥] وقوله : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) [الحجر : ٨٥].
ولحرف (من) في هذا الكلام الوقع البديع إذ كانت على احتمال معنييها دليلا على إمكان البعث وعلى وقوعه وعلى وجوب وقوعه وجوبا تقتضيه الحكمة الإلهية العليا. ولعل العدول عن صوغ الكلام بالصيغة الغالبة في الاستفهام التقريري ، أعني صيغة النفي بأن يقال: أما خلقوا من غير شيء ؛ والعدول عن تعيين ما أضيف إليه (غَيْرِ) إلى الإتيان بلفظ مبهم وهو لفظ شيء ، روعي فيه الصلاحية لاحتمال المعنيين وذلك من منتهى البلاغة.
وإذ كان فرض أنهم خلقوا من غير شيء واضح البطلان لم يحتج إلى استدلال على إبطاله بقوله : (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ).
وهو إضراب انتقال أيضا ، والاستفهام المقدر بعد (أَمْ) إنكاري ، أي ما هم الخالقون وإذ كانوا لم يدّعوا ذلك فالانكار مرتب على تنزيلهم منزلة من يزعمون أنهم خالقون.
وصيغت الجملة في صيغة الحصر الذي طريقه تعريف الجزأين قصرا إضافيا للرد عليهم بتنزيلهم منزلة من يزعم أنهم الخالقون لا الله ، لأنهم عدّوا من المحال ما هو خارج عن قدرتهم ، فجعلوه خارجا عن قدرة الله ، فالتقدير : أم هم الخالقون لا نحن. والمعنى : نحن الخالقون لا هم.