والحكمة والإنقاذ من الضلال ومن إفاضة هذه الكمالات على الأميين الذين لم تكن لهم سابقة علم ولا كتاب ، ومن لحاق أمم آخرين في هذا الخبر فزال اختصاص اليهود بالكتاب والشريعة ، وهذا أجدع لأنفهم إذ حالوا أن يجيء رسول أمي بشريعة إلى أمة أمية فضلا عن أن نلتحق بأمية أمم عظيمة كانوا أمكن في المعارف والسلطان.
وقال : (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) [آل عمران : ١٣] يختص به. وهذا تمهيد ومقدمة لقوله تعالى : (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ) [الجمعة : ٥] الآيات.
(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥))
بعد أن تبين أنه تعالى آتى فضله قوما أميين أعقبه بأنه قد آتى فضله أهل الكتاب فلم ينتفع به هؤلاء الذين قد اقتنعوا من العلم بأن يحملوا التوراة دون فهم وهم يحسبون أن ادخار أسفار التوراة وانتقالها من بيت إلى بيت كاف في التبجح بها وتحقير من لم تكن التوراة بأيديهم ، فالمراد اليهود الذين قاوموا دعوة محمد صلىاللهعليهوسلم وظاهروا المشركين.
وقد ضرب الله لهؤلاء مثلا بحال حمار يحمل أسفارا لا حظّ له منها إلا الحمل دون علم ولا فهم.
ذلك أن علم اليهود بما في التوراة أدخلوا فيه ما صيره مخلوطا بأخطاء وضلالات ومتبعا فيه هوى نفوسهم وما لا يعدو نفعهم الدنيوي ولم يتخلقوا بما تحتوي عليه من الهدى والدعاء إلى تزكية النفس وقد كتموا ما في كتبهم من العهد باتباع النبي الذي يأتي لتخليصهم من ربقة الضلال فهذا وجه ارتباط هذه الآية بالآيات التي قبلها ، وبذلك كانت هي كالتتمة لما قبلها. وقال في «الكشاف» عن بعضهم : افتخر اليهود بأنهم أهل كتاب. والعرب لا كتاب لهم. فأبطل الله ذلك بشبههم بالحمار يحمل أسفارا.
ومعنى (حُمِّلُوا) : عهد بها إليهم وكلفوا بما فيها فلم يفوا بما كلفوا ، يقال : حمّلت فلانا أمر كذا فاحتمله ، قال تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) سورة الأحزاب [٧٢].