عطية صيغة التفاعل على معنى الكثرة وشدة الفعل (كما في قولنا : عافاك الله وتبارك الله) فتكون استعارة ، أي خسارة للكافرين إذ هم مناط الإنذار. وهذا في معنى قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) في سورة البقرة [١٦] ، وقوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) الآية في سورة الصف [١٠].
فصيغة التفاعل مستعملة مجازا في كثرة حصول الغبن تشبيها للكثرة بفعل من يحصل من متعدد.
والكلام تهديد للمشركين بسوء حالتهم في يوم الجمع ، إذ المعنى : ذلك يوم غبنكم الكثير الشديد بقرينة قوله قبله (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا) [التغابن : ٨]. والغابن لهم هو الله تعالى.
ولو لا قصد ذلك لما اقتصر على أن ذلك يوم تغابن فإن فيه ربحا عظيما للمؤمنين بالله ورسوله والقرآن ، فوزان هذا القصر وزان قوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ) [البقرة : ١٦] وقول النبي صلىاللهعليهوسلم (١) : «إنما المفلس الذي يفلس يوم القيامة».
وأفاد تعريف جزأي جملة (ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ) قصر المسند على المسند إليه أي قصر جنس يوم التغابن على يوم الجمعة المشار إليه باسم الإشارة ، وهو من قبيل قصر الصفة على الموصوف قصرا ادعائيا ، أي ذلك يوم الغبن لا أيام أسواقكم ولا غيرها ، فإن عدم أهمية غبن الناس في الدنيا جعل غبن الدنيا كالعدم وجعل يوم القيامة منحصرا فيه جنس الغبن.
وأما لام التعريف في قوله : (التَّغابُنِ) فهي لام الجنس ، ومن هذا المعنى قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الزمر : ١٥]. وقوله في ضده (يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ) [فاطر : ٢٩]. هذا هو المتعين في تفسير هذه الآية وأكثر المفسرين مرّ بها مرّا. ولم يحتلب منها درّا. وها أنا ذا كددت ثمادي ، فعسى أن يقع للناظر كوقع القراح من الصادي ، والله الهادي.
(يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ
__________________
(١) ذكره البخاري تعليقا في بعض أبواب الأدب من «صحيحه».