ولعل قوله : (قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) إشارة إلى هذا المعنى ، أي علم الله أن يكفي من يتوكل عليه مهمّة فقدّر لذلك أسبابه كما قدّر أسباب الأشياء كلها فلا تشكّوا في إنجاز وعده فإنه إذا أراد أمرا يسّر أسبابه من حيث لا يحتسب الناس وتصاريف الله تعالى خفية عجيبة.
ومعنى (بالِغُ أَمْرِهِ) : واصل إلى مراده. والبلوغ مجاز مشهور في الحصول على المراد. والأمر هنا بمعنى الشأن.
وعن عبد الله بن رافع لما نزل قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) قال أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم (أي بعضهم) : فنحن إذا توكلنا نرسل ما كان لنا ولا نحفظه فنزلت (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) ، أي فيكم وعليكم اه.
وقرأ الجمهور بالغ بالتنوين وأمره بالنصب. وقرأه حفص عن عاصم (بالِغُ أَمْرِهِ) بإضافة (بالِغُ) إلى (أَمْرِهِ).
(قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً).
لهذه الجملة موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن في ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض كما نبهت عليه في مواقع سلفت. فهذه الجملة لها موقع الاستئناف البياني ناشئ عما اشتملت عليه جمل (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً) ، إلى قوله : (إِنَّ اللهَ بالِغُ أَمْرِهِ) لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله بما تضمنته تلك الجمل بعرضها على ارتباك أحواله ، أو يتردد يقينه فيقول : أين أنا من تحصيل هذا ، حين يتبع نظره فيرى بونا عن حصول الموعود بسبب انعدام وسائله لديه فيتملكه اليأس.
فهذا الاستئناف البياني وقع عقب الوعد تذكيرا بأن الله علم مواعيده وهيأ لها مقادير حصولها لأنه جعل لكل شيء قدرا.
ولها موقع التعليل لجملة (وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ) [الطلاق : ١] فإن العدة من الأشياء فلما أمر الله بإحصاء أمرها علّل ذلك بأن تقدير مدة العدة جعله الله ، فلا يسوغ التهاون فيه.
ولهذا موقع التذييل لجملة (وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) [الطلاق : ١] ، أي الذي وضع تلك الحدود قد جعل لكل شيء قدرا لا يعدوه كما جعل الحدود.