تجري على التسامح فيطلقون على أمثلة الأحكام وجزئيات الكليات اسم أسباب النزول ، كما ذكرناها في المقدمة الخامسة من مقدمات هذا التفسير ، وأمسك مجاهد فلم يذكر لهذه الآية سببا واقتصر على قوله : نهوا عن مناجاة الرسول حتى يتصدّقوا.
والذي يظهر لي : أن هذه الصدقة شرعها الله وفرضها على من يجد ما يتصدق به قبل مناجاة الرسول صلىاللهعليهوسلم وأسقطها عن الذين لا يجدون ما يتصدقون به ، وجعل سببها ووقتها هو وقت توجههم إلى مناجاة الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وكان المسلمون حريصين على سؤال رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن أمور الدين كل يوم فشرع الله لهم هذه الصدقة كل يوم لنفع الفقراء نفعا يوميا ، وكان الفقراء أيامئذ كثيرين بالمدينة منهم أهل الصفّة ومعظم المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم.
والأظهر أن هذه الصدقة شرعت بعد الزكاة فتكون لحكمة إغناء الفقراء يوما فيوما لأن الزكاة تدفع في رءوس السنين وفي معيّن الفصول ، فلعل ما يصل إلى الفقراء منها يستنفدونه قبل حلول وقت الزكاة القابلة.
وعن ابن عباس : أن صدقة المناجاة شرعت قبل شرع الزكاة ونسخت بوجوب الزكاة ، وظاهر قوله في الآية التي بعدها (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [المجادلة : ١٣] أن الزكاة حينئذ شرع مفرد معلوم ، ولعل ما نقل عن ابن عباس إن صح عنه أراد أنها نسخت بالاكتفاء بالزكاة.
وقد تعددت أخبار مختلفة الأسانيد تتضمن أن هذه الآية لم يدم العمل بها إلا زمنا قليلا ، قيل : إنه عشرة أيام. وعن الكلبي قال : كان ساعة من نهار ، أي أنها لم يدم العمل بها طويلا إن كان الأمر مرادا به الوجوب وإلا فإن ندب ذلك لم ينقطع في حياة النبيصلىاللهعليهوسلم لتكون نفس المؤمن أزكى عند ملاقاة النبي مثل استحباب تجديد الوضوء لكل صلاة.
وتضافرت كلمات المتقدمين على أن حكم الأمر في قوله : (فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً) قد نسخه قوله : (فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) [المجادلة : ١٣] الآية. وهذا مؤذن بأن الأمر فيها للوجوب. وفي تفسير القرطبي وأحكام ابن الفرس حكاية أقوال في سبب نزول هذه الآية تحوم حول كون هذه الصدقة شرعت لصرف أصناف من الناس عن مناجاة النبي صلىاللهعليهوسلم إذ كانوا قد ألحفوا في مناجاته دون داع يدعوهم فلا ينثلج لها صدر العالم لضعفها سندا ومعنى ، ومنافاتها مقصد الشريعة. وأقرب ما روي عن خبر تقرير هذه الصدقة ما في «جامع الترمذي» عن علي بن علقمة الأنماري عن علي بن أبي طالب قال :