والباء للسببية والمجرور خبر عن اسم الإشارة ، أي سبب ذلك المذكور وهو انتفاء فقاهتهم.
وإقحام لفظ (قَوْمٌ) لما يؤذن به من أن عدم فقه أنفسهم أمر عرفوا به جميعا وصار من مقومات قوميتهم لا يخلو عنه أحد منهم ، وقد تقدم بيان ذلك عند قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) إلى قوله : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤].
والفقه : فهم المعاني الخفية ، وقد تقدم عند قوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) في سورة النساء [٧٨] ، وقوله : (انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) في سورة الأنعام [٦٥] ، ذلك أنهم تبعوا دواعي الخوف المشاهد وذهلوا عن الخوف المغيب عن أبصارهم ، وهو خوف الله فكان ذلك من قلة فهمهم للخفيّات.
(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (١٤))
(لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلَّا فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ).
هذه الجملة بدل اشتمال من جملة (لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللهِ) [الحشر: ١٣] ، لأن شدة الرهبة من المسلمين تشتمل على شدة التحصّن لقتالهم إياهم ، أي لا يقدرون على قتالكم إلّا في هاته الأحوال والضمير المرفوع في (يُقاتِلُونَكُمْ) عائد إلى (الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) [الحشر : ١١].
وقوله : (جَمِيعاً) يجوز أن يكون بمعنى كلهم كقوله تعالى : (إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً) [المائدة : ٤٨] فيكون للشمول ، أي كلهم لا يقاتلونكم اليهود والمنافقون إلا في قرى محصّنة إلخ.
ويجوز أن يكون بمعنى مجتمعين ، أي لا يقاتلونكم جيوشا كشأن جيوش المتحالفين فإن ذلك قتال من لا يقيمون في قراهم فيكون النفي منصّبا إلى هذا القيد ، أي لا يجتمعون على قتالكم اجتماع الجيوش ، أي لا يهاجمونكم ولكن يقاتلون قتال دفاع في قراهم.
واستثناء (إِلَّا فِي قُرىً) على الوجه الأول في (جَمِيعاً) استثناء حقيقي من عموم الأحوال ، أي لا يقاتلونكم كلهم في حال من الأحوال إلا في حال الكون في قرى محصّنة