[١٦ ، ١٧] (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (١٧))
هذا مثل آخر لممثّل آخر ، وليس مثلا منضمّا إلى المثل الذي قبله لأنه لو كان ذلك لكان معطوفا عليه بالواو ، أو ب (أو) كقوله تعالى (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) [البقرة : ١٩].
والوجه : أن هذا المثل متصل بقوله : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [الحشر : ١٥] كما يفصح عنه قوله في آخره : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ) الآية ، أي مثلهم في تسبيبهم لأنفسهم عذاب الآخرة كمثل الشيطان إذ يوسوس للإنسان بأن يكفر ثم يتركه ويتبرأ منه فلا ينتفع أحدهما بصاحبه ويقعان معا في النار.
فجملة (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ) حال من ضمير (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [الحشر : ١٥] أي في الآخرة.
والتعريف في (الشَّيْطانِ) تعريف الجنس وكذلك تعريف «الإنسان». والمراد به الإنسان الكافر.
ولم ترد في الآخرة حادثة معيّنة من وسوسة الشيطان لإنسان معيّن في الدنيا ، وكيف يكون ذلك والله تعالى يقول : (فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ) ، وهل يتكلم الشيطان مع الناس في الدنيا فإن ظاهرة قوله : (قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ) أنه يقوله للإنسان ، وإما احتمال أن يقوله في نفسه فهو احتمال بعيد. فالحق : أن قول الشيطان هذا هو ما في آية (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) في سورة إبراهيم [٢٢].
وقد حكى ابن عباس وغيرهما من السلف في هذه الآية قصة راهب بحكاية مختلفة جعلت كأنها المراد من الإنسان في هذه الآية. ذكرها ابن جرير والقرطبي وضعّف ابن عطية أسانيدها فلئن كانوا ذكروا القصة فإنما أرادوا أنها تصلح مثالا لما يقع من الشيطان للإنسان كما مال إليه ابن كثير.
فالمعنى : إذ قال للإنسان في الدنيا : اكفر ، فلما كفر ووافى القيامة على الكفر قال