فكانت عليهم الحجة بأقوى مما قامت به المعجزات المادية السابقة مثل عصا موسى ويده في عصر السحر ، وإبراء عيسى الأكمه والأبرص وإحياء الموتى في عصر الطب.
والوجه الثاني ـ كان معلوما عند الناس قاطبة : المؤمنين والجاحدين لنبوة النّبيصلىاللهعليهوسلم أنه كان من أتمّ الناس عقلا ، وأكملهم خلقا ، وأفضلهم رأيا ، فما طعن عليه أحد في كمال عقله ، ووفور حلمه ، وصحة فهمه ، وجودة رأيه ، فلا يجوز على من كان هذا وصفه أن يدّعي النّبوة ، ويجعل علامة نبوته كلاما يقدر كل واحد من العرب على مثله ، فيظهر حينئذ كذبه ، وبطلان دعواه ، فدلّ ذلك على أنه تحداهم بكلام هو من عند الله لا يقدر العباد على مثله.
والوجه الثالث ـ أخبر تعالى بقوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) أنهم لا يعارضونه ، وذلك إخبار بالغيب ، وتحقق الخبر مع مضي الزمان. قال أبو بكر الجصاص (١) : وقد تحدى الله الخلق كلهم من الجن والإنس بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن بقوله تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) [الإسراء ١٧ / ٨٨] ، فلما ظهر عجزهم قال : (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) [هود ١٤ / ١٣] ، فلما عجزوا قال : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) [الطور ٥٢ / ٣٤] ، فتحداهم بالإتيان بمثل أقصر سورة منه ، فلما ظهر عجزهم عن ذلك ، وقامت عليهم الحجة ، وأعرضوا عن طريق المحاجة ، وصمموا على القتال والمغالبة ، أمر الله نبيه بقتالهم.
والخلاصة : أن التحدي كان متنوعا ، مرة بالنظم والمعنى ، ومرة بالنظم دون المعنى ، بافتراء شيء لا معنى له ، وفي كل الأحوال ظهر فشلهم.
__________________
(١) أحكام القرآن : ١ / ٢٩