شيء من قوله : (وَما يُدْرِيكَ) فقد طوي عنه». وقد روي هذا أيضا عن سفيان بن عيينة وعن يحيى بين سلّام فإن صح هذا المروي فإن مرادهم أن مفعول (ما أَدْراكَ) محقق الوقوع لأن الاستفهام فيه للتهويل وأن مفعول (ما يُدْرِيكَ) غير محقق الوقوع لأن الاستفهام فيه للإنكار وهو في معنى نفي الدارية.
وقال الراغب : كل موضع ذكر في القرآن (وَما أَدْراكَ) فقد عقب ببيانه نحو (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ نارٌ حامِيَةٌ) [القارعة : ١٠ ـ ١١] ، (وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر : ٢ ـ ٣] ، (ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) [الانفطار : ١٨ ـ ١٩] ، (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) [الحاقة : ٣ ـ ٤] ، وكأنه يريد تفسير ما نقل عن ابن عباس وغيره.
ولم أر من اللغويين من وفّى هذا التركيب حقه من البيان وبعضهم لم يذكره أصلا.
(كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (٤))
إن جعلت قوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ٣] نهاية كلام فموقع قوله : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) وما اتصل به استئناف ، وهو تذكير بما حل بثمود وعاد لتكذيبهم بالبعث والجزاء تعريضا بالمشركين من أهل مكة بتهديدهم أن يحق عليهم مثل ما حل بثمود وعاد فإنهم سواء في التكذيب بالبعث وعلى هذا يكون قوله (الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١] إلخ توطئة له وتمهيدا لهذه الموعظة العظيمة استرهابا لنفوس السامعين.
وإن جعلت الكلام متصلا بجملة (كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ) وعيّنت لفظ (الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١] ليوم القيامة وكانت هذه الجملة خبرا ثالثا عن (الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١].
والمعنى : الحاقة كذبت بها ثمود وعاد ، فكان مقتضى الظاهر أن يؤتى بضمير (الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١] فيقال : كذبت ثمود وعاد بها ، فعدل إلى إظهار اسم (القارعة) لأن (القارعة) مرادفة (الْحَاقَّةُ) في أحد محملي لفظ (الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١] ، وهذا كالبيان للتهويل الذي في قوله : (وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ٣].
و (القارعة) مراد منها ما أريد ب (الْحَاقَّةُ) [الحاقة : ١].
وابتدئ بثمود وعاد في الذكر من بين الأمم المكذبة لأنهما أكثر الأمم المكذبة شهرة عند المشركين من أهل مكة لأنهما من الأمم العربية ولأن ديارهما مجاورة شمالا وجنوبا.