الأجزاء ، فادعاؤهم أنه قول شاعر بهتان متعمّد ينادي على أنهم لا يرجى إيمانهم ، وأما انتفاء كون القرآن قول كاهن فمحتاج إلى أدنى تأمل إذ قد يشبّه في بادئ الرأي على السامع من حيث إنه كلام منثور مؤلف على فواصل ويؤلف كلام الكهان على أسجاع مثناة متماثلة زوجين زوجين ، فإذا تأمل السامع فيه بأدنى تفكر في نظمه ومعانيه علم أنه ليس بقول كاهن ، فنظمه مخالف لنظم كلام الكهان إذ ليست فقراته قصيرة ولا فواصله مزدوجة ملتزم فيها السجع ، ومعانيه ليست من معاني الكهانة الرامية إلى الإخبار عما يحدث لبعض الناس من أحداث ، أو ما يلم بقوم من مصائب متوقعة ليحذروها ، فلذلك كان المخاطبون بالآية منتفيا عنهم التذكر والتدبر ، وإذا بطل هذا وذاك بطل مدعاهم فحق أنه تنزيل من رب العالمين كما ادعاه الرسول الكريم عليه الصلاة والتسليم.
وقوله : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) خبر ثان عن اسم (إنّ) وهو تصريح بعد الكناية.
ولك أن تجعل (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) خبر مبتدأ محذوف جرى حذفه على النوع الذي سماه السكاكي بمتابعة الاستعمال في أمثاله وهو كثير في الكلام البليغ ، وتجعل الجملة استئنافا بيانيا لأن القرآن لمّا وصف بأنه (لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) ونفي عنه أن يكون قول شاعر أو قول كاهن ، ترقّب السامع معرفة كنهه ، فبين بأنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم ليقوله للناس ويتلوه عليهم.
و (تَنْزِيلٌ) وصف بالمصدر للمبالغة.
والمعنى : إنه منزل من رب العالمين على الرسول الكريم.
وعبر عن الجلالة بوصف (رَبِّ الْعالَمِينَ) دون اسمه العلم للتنبيه على أنه رب المخاطبين ورب الشعراء والكهان الذين كانوا بمحل التعظيم والإعجاب عندهم نظير قول موسى لفرعون (رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء : ٢٦].
[٤٤ ـ ٤٧] (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (٤٤) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (٤٥) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (٤٦) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (٤٧))
هذه الجملة عطف على جملة (فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ) [الحاقة :٣٨ ـ ٣٩] فهي مشمولة لما أفادته الفاء من التفريع على ما اقتضاه تكذيبهم بالبعث من تكذيبهم القرآن ومن جاء به وقال : إنه وحي من الله تعالى.