والمعنى : أنا خلقنا الإنسان من نطفة حتى صارت إنسانا عاقلا مناظرا فكذلك نعيد خلقه بكيفية لا يعلمونها.
فما صدق (ما يعلمون) هو ما يعلمه كل أحد من أنه كون في بطن أمه من نطفة وعلقة ، ولكنهم علموا هذه النشاة الأولى فألهاهم التعوّد بها عن التدبر في دلالتها على إمكان إعادة المكوّن منها بتكوين آخر.
وعدل عن أن يقال : إنا خلقناهم من نطفة ، كما قال في آيات أخرى (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ) [الإنسان : ٢] وقال : (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس : ٧٧ ، ٧٨] وغيرها من آيات كثيرة ، عدل عن ذلك إلى الموصول في قوله : (مِمَّا يَعْلَمُونَ) توجيها للتهكم بهم إذ جادلوا وعاندوا ، وعلم ما جادلوا فيه قائم بأنفسهم وهم لا يشعرون ، ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ) [الواقعة : ٦٢]. وكان في قوله تعالى : (مِمَّا يَعْلَمُونَ) إيماء إلى أنهم يخلقون الخلق الثاني (مِمَّا لا يَعْلَمُونَ) كما قال في الآية الأخرى (سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) [يس : ٣٦] وقال : (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) [الواقعة : ٦١] فكان في الخلق الأول سرّ لا يعلمونه.
ومجيء (إِنَّا خَلَقْناهُمْ) موكدا بحرف التأكيد لتنزيلهم فيما صدر منهم من الشبهة الباطلة منزلة من لا يعلمون أنهم خلقوا من نطفة وكانوا معدومين ، فكيف أحالوا إعادة خلقهم بعد أن عدم بعض أجزائهم وبقي بعضها ثم أتبع هذه الكناية عن إمكان إعادة الخلق بالتصريح بذلك بقوله : (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ) مفرعا على قوله : (إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ) والتقدير : فإنا لقادرون الآية.
وجملة (لا أقسم برب المشارق) إلخ معترضة بين الفاء وما عطفته.
والقسم بالله بعنوان ربوبيته المشارق والمغارب معناه : ربوبيته العالم كله لأن العالم منحصر في جهات شروق الشمس وغروبها.
وجمع (الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ) باعتبار تعدد مطالع الشمس ومغاربها في فصول السنة فإن ذلك مظهر عجيب من مظاهر القدرة الإلهية والحكمة الربانية لدلالته على عظيم صنع الله من حيث إنه دال على الحركات الحافة بالشمس التي هي من عظيم المخلوقات ،