المعنى الأكمل وهي من قبيل قوله تعالى : (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) [الأحقاف : ٩].
وليس المراد منها فيما نرى أنهم ينفون أن يعلموا ما ذا أراد الله بهذه الشهب ، فإن ذلك لا يناسب ما تقدم من أنهم آمنوا بالقرآن إذ قالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ) [الجن : ١ ، ٢] وقولهم : (فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) [الجن : ٩] فذلك صريح في أنهم يدرون أن الله أراد بمن في الأرض خيرا بهذا الدّين وبصرف الجن عن استراق السمع.
وتكرير (إنّ) واسمها للتأكيد لكون هذا الخبر معرضا لشك السامعين من الجن الذين لم يختبروا حراسة السماء.
والرشد : إصابة المقصود النافع وهو وسيلة للخير ، فلهذا الاعتبار جعل مقابلا للشر وأسند فعل إرادة الشر إلى المجهول ولم يسند إلى الله تعالى مع أن مقابله أسند إليه بقوله : (أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً) ، جريا على واجب الأدب مع الله تعالى في تحاشي إسناد الشر إليه.
(وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (١١))
قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها وهو من قول الجن.
وقراءة فتح الهمزة عطف على المجرور بالباء ، أي آمنا بأنا منّا الصالحون ، أي أيقنّا بذلك وكنا في جهالة عن ذلك.
ظهرت عليهم آثار التوفيق فعلموا أنهم أصبحوا فريقين فريق صالحون وفريق ليسوا بصالحين ، وهم يعنون بالصالحين أنفسهم وبمن دون الصلاح بقية نوعهم ، فلما قاموا مقام دعوة إخوانهم إلى اتباع طريق الخير لم يصارحوهم بنسبتهم إلى الإفساد بل ألهموا وقالوا منا الصالحون ، ثم تلطفوا فقالوا : ومنا دون ذلك ، الصادق بمراتب متفاوتة في الشر والفساد ليتطلب المخاطبون دلائل التمييز بين الفريقين ، على أنهم تركوا لهم احتمال أن يعنى بالصالحين الكاملون في الصلاح فيكون المعني بمن دون ذلك من هم دون مرتبة الكمال في الصلاح ، وهذا من بليغ العبارات في الدعوة والإرشاد إلى الخير.
و (دُونَ) : اسم بمعنى (تحت) ، وهو ضد فوق ولذلك كثر نصبه على الظرفية