وهذا الهجر : هو إمساك النبي صلىاللهعليهوسلم عن مكافاتهم بمثل ما يقولونه مما أشار إليه قوله تعالى : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ).
وليس منسحبا على الدعوة للدين فإنها مستمرة ولكنها تبليغ عن الله تعالى فلا ينسب إلى النبي صلىاللهعليهوسلم.
وقد انتزع فخر الدين من هذه الآية منزعا خلقيا بأن الله جمع ما يحتاج إليه الإنسان في مخالطة الناس في هاتين الكلمتين لأن المرء إما أن يكون مخالطا فلا بد له من الصبر على أذاهم وإيحاشهم لأنه إن أطمع نفسه بالراحة معهم لم يجدها مستمرة فيقع في الغموم إن لم يرض نفسه بالصبر على أذاهم ، وإن ترك المخالطة فذلك هو الهجر الجميل.
(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١))
القول فيه كالقول في (فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ) في سورة القلم [٤٤] ، أي دعني وإياهم ، أي لا تهتم بتكذيبهم ولا تشتغل بتكرير الرد عليهم ولا تغضب ولا تسبهم فأنا أكفيكهم.
وانتصب (الْمُكَذِّبِينَ) على المفعول معه ، والواو واو المعية.
والمكذبون هم من عناهم بضمير (يَقُولُونَ) و (اهْجُرْهُمْ) [المزمل : ١٠] ، وهم المكذبون للنبي صلىاللهعليهوسلم من أهل مكة ، فهو إظهار في مقام الإضمار لإفادة أن التكذيب هو سبب هذا التهديد.
ووصفهم ب (أُولِي النَّعْمَةِ) توبيخا لهم بأنهم كذبوا لغرورهم وبطرهم بسعة حالهم ، وتهديدا لهم بأن الذي قال (ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ) سيزيل عنهم ذلك التنعم.
وفي هذا الوصف تعريض بالتهكم ، لأنهم كانوا يعدّون سعة العيش ووفرة المال كمالا ، وكانوا يعيّرون الذين آمنوا بالخصاصة قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) الآيات [المطففين : ٢٩ ، ٣٠] ، وقال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) [محمد : ١٢].
و (النَّعْمَةِ) : هنا بفتح النون باتفاق القراء. وهي اسم للترفه ، وجمعها أنعم بفتح الهمزة وضم العين.
وأما النّعمة بكسر النون فاسم للحالة الملائمة لرغبة الإنسان من عافية ، وأمن ورزق ،