عطف على الجمل السابقة عطف غرض على غرض ، وهو انتقال إلى غرض آخر لمناسبة حكاية أقوالهم في الآخرة بذكر أقوالهم في الدنيا وهي الأقوال التي كانت تصدر منهم بالنيل من رسول الله صلىاللهعليهوسلم فكان الله يطلعه على أقوالهم فيخبرهم النبي صلىاللهعليهوسلم بأنكم قلتم كذا وكذا ، فقال بعضهم لبعض : أسروا قولكم كيلا يسمعه رب محمد فأنزل الله (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ) كذا روي عن ابن عباس.
وصيغة الأمر في (وَأَسِرُّوا) و (اجْهَرُوا) مستعملة في التسوية كقوله تعالى : (فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) [الطور : ١٦] ، وهذا غالب أحوال صيغة افعل إذا جاءت معها (أَوِ) عاطفة نقيض أحد الفعلين على نقيضه.
فقوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) تعليل للتسوية المستفادة من صيغة الأمر بقرينة المقام وسبب النزول ، أي فسواء في علم الله الإسرار والإجهار لأن علمه محيط بما يختلج في صدور الناس بله ما يسرون به من الكلام ، ولذلك جيء بوصف عليم إذ العليم من أمثلة المبالغة وهو القويّ علمه.
وضمير (إِنَّهُ) عائد إلى الله تعالى المعلوم من المقام ، ولا معاد في الكلام يعود إليه الضمير ، لأن الاسم الذي في جملة (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) [الملك : ١٢] لا يكون معادا لكلام آخر.
و (ذات الصدور) ما يتردد في النفس من الخواطر والتقادير والنوايا على الأعمال. وهو مركب من (ذات) التي هي مؤنث (ذو) بمعنى صاحب ، و (الصُّدُورِ) بمعنى العقول وشأن (ذو) أن يضاف إلى ما فيه رفعة.
وجملة (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) استئناف بياني ناشئ عن قوله : (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) بأن يسأل سائل منهم : كيف يعلم ذات الصدور ، والمعروف أن ما في نفس المرء لا يعلمه غير نفسه؟ فأجيبوا بإنكار انتفاء علمه تعالى بما في الصدور فإنه خالق أصحاب تلك الصدور ، فكما خلقهم وخلق نفوسهم جعل اتصالا لتعلق علمه بما يختلج فيها وليس ذلك بأعجب من علم أصحاب الصدور بما يدور في خلدها ، فالإتيان ب (مَنْ) الموصولة لإفادة التعليل بالصلة.
فيجوز أن يكون (مَنْ خَلَقَ) مفعول (يَعْلَمُ) فيكون (يَعْلَمُ) و (خَلَقَ) رافعين