ثم أضرب على كلامهم بإبطال آخر بحرف الإضراب فقال : (بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ) أي ليس ما قالوه إلّا تنصلا فلو أنزل عليهم كتاب ما آمنوا وهم لا يخافون الآخرة ، أي لا يؤمنون بها فكني عن عدم الإيمان بالآخرة بعدم الخوف منها ، لأنهم لو آمنوا بها لخافوها إذ الشأن أن يخاف عذابها إذ كانت إحالتهم الحياة الآخرة أصلا لتكذيبهم بالقرآن.
[٥٤ ـ ٥٦] (كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦))
(كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ).
(كَلَّا) ردع ثان مؤكّد للردع الذي قبله ، أي لا يؤتون صحفا منشورة ولا يوزعون إلّا بالقرآن.
وجملة (إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ) تعليل للردع عن سؤالهم أن تنزل عليهم صحف منشّرة ، بأن هذا القرآن تذكرة عظيمة ، وهذا كقوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [العنكبوت : ٥٠ ، ٥١]. فضمير (إِنَّهُ) للقرآن ، وهو معلوم من المقام ، ونظائر ذلك كثيرة في القرآن. وتنكير (تَذْكِرَةٌ) للتعظيم.
وقوله : (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) تفريع على أنه تذكرة ونظيره قوله تعالى : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) في سورة المزمل [١٩].
وهذا تعريض بالترغيب في التذكر ، أي التذكر طوع مشيئتكم فإن شئتم فتذكروا.
والضمير الظاهر في (ذَكَرَهُ) يجوز أن يعود إلى ما عاد إليه ضمير (إِنَّهُ) وهو القرآن فيكون على الحذف والإيصال وأصله : ذكر به.
ويجوز أن يعود إلى الله تعالى وإن لم يتقدم لاسمه ذكر في هذه الآيات لأنه مستحضر من المقام على نحو قوله : (إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) [المزمل : ١٩].
وضمير (شاءَ) راجع إلى (من) ، أي من أراد أن يتذكر ذكر بالقرآن وهو مثل قوله آنفا (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ) [المدثر : ٣٧] وقوله في سورة المزمل [١٩] (فَمَنْ