(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (١٩))
عطف على جملة : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) [الملك : ١٥] استرسالا في الدلائل على انفراد الله تعالى بالتصرف في الموجودات ، وقد انتقل من دلالة أحوال البشر وعالمهم ، إلى دلالة أعجب أحوال العجماوات وهي أحوال الطير في نظام حركاتها في حال طيرانها إذ لا تمشي على الأرض كما هو في حركات غيرها على الأرض ، فحالها أقوى دلالة على عجيب صنع الله المنفرد به.
واشتمل التذكير بعجيب خلقة الطير في طيرانها على ضرب من الإطناب لأن الأوصاف الثلاثة المستفادة من قوله : (فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ) تصوّر صورة حركات الطيران للسامعين فتنبههم لدقائق ربما أغفلهم عن تدقيق النظر فيها نشأتهم بينها من وقت ذهول الإدراك في زمن الصّبا ، فإن المرء التونسي أو المغربي مثلا إذا سافر إلى بلاد الهند أو إلى بلاد السودان فرأى الفيلة وهو مكتمل العقل دقيق التمييز أدرك من دقائق خلفة الفيل ما لا يدركه الرجل من أهل الهند الناشئ بين الفيلة ، وكم غفل الناس عن دقائق في المخلوقات من الحيوان والجماد ما لو تتبعوه لتجلى لهم منها ما يملأ وصفه الصحف قال تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) [الغاشية : ١٧ ـ ٢٠] ، وقال : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١].
وقد رأيت بعض من شاهد البحر وهو كبير ، ولم يكن شاهده من قبل ، كيف امتلكه من العجب ما ليس لأحد ممن ألفوه معشاره.
وهذا الإطناب في هذه السورة مخالف لما في نظير هذه الآية من سورة النحل [٧٩] في قوله : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ). وذلك بحسب ما اقتضاه اختلاف المقامين فسورة النحل رابعة قبل سورة الملك ، فلما أوقظت عقولهم فيها للنظر إلى ما في خلقة الطير من الدلائل فلم يتفطنوا وسلك في هذه السورة مسلك الإطناب بزيادة ذكر أوصاف ثلاثة :
فالوصف الأول : ما أفاده قوله : (فَوْقَهُمْ) فإن جميع الدواب تمشي على الأرض والطير كذلك فإذا طار الطائر انتقل إلى حالة عجيبة مخالفة لبقية المخلوقات وهي السير في