وفي ذكر فعل (كانُوا) دون أن يقال : ما يكسبون ، إشارة إلى أن المراد : ما كسبوه في أعمارهم من الإشراك قبل مجيء الإسلام فإنهم وإن لم يكونوا مناط تكليف أيامئذ. فهم مخالفون لما جاءت به الشرائع السالفة وتواتر وشاع في الأمم من الدعوة إلى توحيد الله بالإلهية على قول الأشعري وأهل السنة في توجيه مؤاخذة أهل الفترة بذنب الإشراك بالله حسبما اقتضته الأدلة من الكتاب والسنة أو مخالفون لمقتضى دلالة العقل الواضحة على قول الماتريدي والمعتزلة ولحق بذلك ما اكتسبوه من وقت مجيء الإسلام إلى أن نزلت هذه السورة فهي مدة ليست بالقصيرة.
و (كَلَّا) الثانية تأكيد ل (كَلَّا) الأولى زيادة في الردع ليصير توبيخا.
(إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧)).
جملة : (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) وما عطف عليها ابتدائية وقد اشتملت الجملة ومعطوفاها على أنواع ثلاثة من الويل وهي الإهانة ، والعذاب ، والتقريع مع التأييس من الخلاص من العذاب.
فأما الإهانة فحجبهم عن ربهم ، والحجب هو الستر ، ويستعمل في المنع من الحضور لدى الملك ولدي سيد القوم ، قال الشاعر الذي لم يسمّ وهو من شواهد «الكشاف» :
إذا اعتروا باب ذي عبّيّة رجبوا |
|
والناس من بين مرجوب ومحجوب |
وكلا المعنيين مراد هنا لأن المكذبين بيوم الدين لا يرون الله يوم القيامة حين يراه أهل الإيمان.
ويوضح هذا المعنى قوله في حكاية أحوال الأبرار : (عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) [المطففين : ٢٣] وكذلك أيضا لا يدخلون حضرة القدس قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) [الأعراف : ٤٠] ، وليكون الكلام مفيدا للمعنيين قيل : «عن ربهم لمحجوبون» دون أن يقال : عن رؤية ربهم ، أو عن وجه ربهم كما قال في آية آل عمران [٧٧] : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ).
وأما العذاب فهو ما في قوله : (ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ)
وقد عطفت جملته بحرف (ثُمَ) الدالة في عطفها الجمل على التراخي الرتبي وهو