استدلال بحالة أخرى من الأحوال التي أودعها الله تعالى في نظام الموجودات وجعلها منشأ شبيها بحياة بعد شبيه بموت أو اقتراب منه ومنشأ تخلق موجودات من ذرات دقيقة. وتلك حالة إنزال ماء المطر من الأسحبة على الأرض فتنبت الأرض به سنابل حبّ وشجرا ، وكلأً ، وتلك كلها فيها حياة قريبة من حياة الإنسان والحيوان وهي حياة النماء فيكون ذلك دليلا للناس على تصور حالة البعث بعد الموت بدليل من التقريب الدال على إمكانه حتى تضمحل من نفوس المكابرين شبه إحالة البعث.
وهذا الذي أشير إليه هنا قد صرح به في مواضع من القرآن كقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ) [ق : ٩ ـ ١١] ففي الآية استدلالان : استدلال بإنزال الماء من السحاب ، واستدلال بالإنبات ، وفي هذا أيضا منّة على المعرضين عن النظر في دلائل صنع الله التي هي دواع لشكر المنعم بها لما فيها من منافع للناس من رزقهم ورزق أنعامهم ، ومن تنعمهم وجمال مرائيهم فإنهم لو شكروا المنعم بها لكانوا عند ما يبلغهم عنه أنه يدعوهم إلى النظر في الأدلة مستعدين للنظر ، بتوقع أن تكون الدعوة البالغة إليهم صادقة العزو إلى الله فما خفيت عنهم الدلالة.
ومناسبة الانتقال من ذكر السماوات إلى ذكر السحاب والمطر قوية.
والمعصرات : بضم الميم وكسر الصاد السحابات التي تحمل ماء المطر واحدتها معصرة اسم فاعل من : أعصرت السحابة ، إذا آن لها أن تعصر ، أي تنزل إنزالا شبيها بالعصر. فهمزة (أعصر) تفيد معنى الحينونة وهو استعمال موجود وتسمّى همزة التهيئة كما في قولهم : أجزّ الزرع ، إذا حان له أن يجزّ (بزاي في آخره) وأحصد إذا حان وقت حصاده. ويظهر من كلام صاحب «الكشاف» أن همزة الحينونة تفيد معنى التهيّؤ لقبول الفعل وتفيد معنى التهيّؤ لإصدار الفعل فإنه ذكر : أعصرت الجارية ، أي حان وقت أن تصير تحيض ، وذكر ابن قتيبة في «أدب الكاتب» : أركب المهر ، إذا حان أن يركب ، وأقطف الكرم ، إذا حان أن يقطف. ثم ذكر : أقطف القوم : حان أن يقطفوا كرومهم ، وأنتجت الخيل : حان وقت نتاجها.
وفي تفسير ابن عطية عند قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً) الآية من سورة النور [٤٣] ، والعرب تقول : إن الله تعالى إذا جعل السحاب ركاما جاء بالريح عصر بعضه بعضا فيخرج الودق منه ، ومن ذلك قوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً) ومن