عما هم يتطلبونه فإنهم جميعا مقرّون بأن الحنيفية هي الحق الذي أقيمت عليه الموسوية والعيسوية ، والمشركون يزعمون أنهم يطلبون الحنيفية ويأخذون بما أدركوه من بقاياها ويزعمون أن اليهودية والنصرانية تحريف للحنيفية ، فلذلك كان عامة العرب غير متهودين ولا متنصرين ويتمسكون بما وجدوا آباءهم متمسكين به وقلّ منهم من تهودوا أو تنصروا ، وذهب نفر منهم يتطلبون آثار الحنيفية مثل زيد بن عمرو بن نفيل ، وأميّة بن أبي الصّلت.
وخصّ الضمير ب «أهل الكتاب» لأن المشركين لم يؤمروا بذلك قبل الإسلام قال تعالى : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) [القصص : ٤٦].
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦))
بعد أن أنحى على أهل الكتاب والمشركين معا ثم خصّ أهل الكتاب بالطعن في تعللاتهم والإبطال لشبهاتهم التي يتابعهم المشركون عليها. أعقبه بوعيد الفريقين جمعا بينهما كما ابتدأ الجمع بينهما في أول السورة لأن ما سبق من الموعظة والدلالة كاف في تدليل أنفسهم للموعظة.
فالجملة استئناف ابتدائي ، وقدم أهل الكتاب على المشركين في الوعيد استتباعا لتقديمهم عليهم في سببه كما تقدم في أول السورة ، ولأن معظم الرد كان موجها إلى أحوالهم من قوله : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) إلى قوله : (دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة : ٤ ، ٥] ، ولأنه لو آمن أهل الكتاب لقامت الحجة على أهل الشرك.
و (مِنْ) بيانية مثل التي في قوله : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) [البينة : ١].
وتأكيد الخبر ب (إِنَ) للرد على أهل الكتاب الذين يزعمون أنهم لا تمسهم النار إلا أياما معدودة ، فإن الظرفية التي اقتضتها (فِي) تفيد أنهم غير خارجين منها ، وتأكد ذلك بقوله : (خالِدِينَ فِيها) ، وأما المشركون فقد أنكروا الجزاء رأسا.
والإخبار عنهم بالكون في نار جهنم إخبار بما يحصل في المستقبل بقرينة مقام الوعيد فإن الوعيد كالوعد يتعلق بالمستقبل وإن كان شأن الجملة الاسمية غير المقيدة بما يعين زمان وقوعها أن تفيد حصول مضمونها في الحال كما تقول : زيد في نعمة.