قال (جاهِلُونَ) تأنيسا لقلوبهم وبيانا لعذرهم ، كأنه قال : إنما دفعكم لهذا الفعل القبيح جهالة الصبا أو الغرور ، وكأنه لقنهم الحجة ، كقوله تعالى :(ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار ٨٢ / ٦] (١).
وهذا تذكير رقيق بذنوبهم ، تمهيدا لتعريفهم بنفسه ، لا معاتبة ولوما وتوبيخا ، بعد أن حان الوقت في هذه المرة الثالثة من لقاء يوسف مع إخوته ، وكان قد أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين بتقدير الله وأمره ، وهو مصداق قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [يوسف ١٢ / ١٥].
فاغتنموا فرصة هذا التذكير وتساؤل العارف الخبير بأحوالهم ، فسألوه سؤال المتعجب المستغرب المقرّر المثبت أنه أخوهم يوسف : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) أي إنهم استفهموا استفهام تعجب من موقفه أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر ، وهم لا يعرفونه وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه ، ولكنهم في هذه المرة عرفوه بقولهم ذلك ، وتوسموا أنه يوسف ، واستفهموه استفهام استخبار ، وقيل : استفهام تقرير ، وهو أولى في تقديري ، لأنهم كانوا عرفوه بعلامات.
قال ابن عباس : إن إخوته لم يعرفوه حتى وضع التاج عنه ، وكان في قرنه علامة ، وكان ليعقوب مثلها شبه الشامة ، فلما قال لهم : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ) رفع التاج عنه ، فعرفوه ، فقالوا : (أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) أي إنهم قالوا : من المؤكد قطعا أنك أنت يوسف.
(قالَ : أَنَا يُوسُفُ) قال : نعم أنا يوسف المظلوم العاجز ، الذي نصرني الله وقواني وصرت إلى ما ترون ، وهذا أخي بنيامين الذي فرقتم بيني وبينه ،
__________________
(١) البحر المحيط : ٥ / ٣٤١