وفي الآية شاهد ثان على إعطاء صفة ما لا يعقل حكم صفة من يعقل ، إذا ما نسب إلى العقلاء ، ألا ترى أن «طائعا» قد جمع بالياء والنون لمّا نسب لموصوفه القول؟
وشاهد ثالث على أن النصب فى نحو «جاء زيد ركضا» على الحال ، وتأويل ركضا براكضا ، لا على أنه مصدر لفعل محذوف : أي يركض ركضا ، ولا على أنه مصدر للفعل المذكور ، خلافا لزاعمي ذلك ؛ ووجه الدليل أن «طائعين» حال ، وهو في مقابلة (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) فيدل على أن المراد طائعين أو مكرهين.
ثم قلت : وهو خبر ، وطلب ، وإنشاء.
وأقول : كما انقسمت الكلمة إلى ثلاثة أنواع : اسم وفعل وحرف ، كذلك انقسم الكلام إلى ثلاثة أنواع : خبر ، وطلب ، وإنشاء.
وضابط ذلك أنه إمّا أن يحتمل التّصديق والتكذيب ، أو لا ؛ فإن احتملهما فهو الخبر ، نحو «قام زيد» و «ما قام زيد» ، وإن لم يحتملهما فإمّا أن يتأخر وجود معناه عن وجود لفظه ، أو يقترنا ؛ فإن تأخّر عنه فهو الطّلب ، نحو «اضرب» و «لا تضرب» و «هل جاءك زيد؟» وإن اقترنا فهو الإنشاء ، كقولك لعبدك : «أنت حرّ» وقولك لمن أوجب لك النكاح : «قبلت هذا النّكاح» (١)
__________________
الحقيقة فهما اثنتان فتعبر عنهما حينئذ بضمير المثنى ، وهو ما سلكه القرآن الكريم أولا ، وكان هذا في هذا الموضع أولى لأن طبيعة الأفراد كلها واحدة فناسب جمعها في جنس واحد ، وأيضا لئلا يتبادر إلى بعض العقول أن المراد أفراد جنس واحد من الجنسين لو قيل «قلن» بنون النسوة أو «قالوا» بواو الجماعة ، فلما استقر هذا الحكم للجنسين عبر بعد ذلك عن أفرادهما بضمير الجمع ، ففي الأول مراعاة اللفظ ، وفي الثاني مراعاة المعنى ، والسؤال الثاني : كيف عبر عن السماء والأرض بما يختص بالعقلاء وهو جمع المذكر السالم في قوله سبحانه (طائعين) وقد علمنا أن ذلك غير ما جرى عليه استعمال القرآن نفسه؟ وقد تكفل المؤلف بالجواب على هذا.
(١) يختلف العلماء في تقسيم الكلام ، فيذهب بعضهم إلى أنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام : خبر ، وطلب ، وإنشاء ، وبيان ذلك على ما أشار إليه المؤلف أن الكلام إن كان في ذاته يصح أن يقال عنه إنه صدق أو كذب فهو الخبر ، وإن كان لا يصح أن يقال فيه ذلك فإن كان يدل بالوضع على أن المتكلم به طالب لمضمونه من المخاطب فإنه يسمى طلبا ، وذلك يشمل ثلاثة أنواع ، وهي الأمر ، والنهي ، والاستفهام ، لأن المتكلم بالأمر نحو اكتب ولتكتب يطلب من مخاطبه طلبا جازما أن يحدث الكتابة ، مثلا ، ولأن المتكلم بالنهي نحو لا تلعب طالب من