هذا باب ما ينتصب من المصادر توكيدا لما قبله
وهو قولك : هو عبد الله حقّا ، وهذا عبد الله لا الباطل ، وهذا زيد غير ما تقول.
اعلم أن «حقّا» وما بعده مصادر والناصب لها فعل قبلها يؤكد الجملة وذلك الفعل أحق أو ما جرى مجراه ، وذلك أنك إذا قلت : هذا عبد الله جاز أن يكون كلامك قد جرى على يقين منك وتحقيق وجاز أن يكون على شك.
فإذا قلت «حقّا» أكدت وبينت.
وإذا قال : «الحق لا الباطل» فالباطل عطف على الحق «بلا» وإذا قال هذا زيد أقول : غير ما تقول ، فكأنه قال : هذا زيد قولا غير ما تقول ، فجعل قول المخاطب باطلا وحقق قوله.
فكأنه قال : أقول الحق.
ومثله في الاستفهام : أجدك لا تفعل كذا وكذا. وأصله من الجد. كأنه قال : أجد ، غير أنه لا يستعمل إلا مضافا حتى يعلم من صاحب الجد ، فيجري في لزوم الإضافة مجرى لبيك ومعاذ الله.
وهذا باب يكون فيه المصدر توكيدا لنفسه.
وذلك قولك : له عليّ ألف درهم عرفا ، ومثل ذلك قول الأحوص :
* أصبحت أمنحك الصدود وإنني |
|
قسما إليك مع الصدود لأميل (١) |
يخاطب بهذا البيت منزل محبوبته ، وكان يعرض عنه ويتجنبه لئلا يفطن له.
واعلم أن الفرق بين هذا الباب والذي قبله ، أن الباب الأول توكيد لما قبله ، وهذا توكيد لنفسه. فإذا قلت : هذا عبد الله حقّا. فقولك : هذا عبد الله ـ من قبل أن تذكر حقا ـ يجوز أن يظن ما قلته حقا وأن يظن باطلا ، فتأتي ب «حقّا» لتجعل الجملة مقصورة على أحد الوجهين المختلفين عند السامع.
وقولك : له عليّ ألف درهم ، وهو اعتراف منك حقّا كان أو باطلا ، فصار هذا توكيدا لنفسه إذ كان الذي ظهر فيه هو الاعتراف. وسمى سيبويه ـ أيضا ـ الباب الأول توكيدا عاما ؛ لأنه سمي هذا توكيدا لنفسه من حيث كان توكيد الاعتراف الذي هو معنى الكلام الظاهر ، وهو لفظ اختصاص ، فجعل الآخر عاما.
وأنشد لرؤبة :
* إن نزارا أصبحت نزارا |
|
دعوة أبرار دعوا أبرارا (٢) |
ومعناه أن نزارا وهو أبو ربيعة ومضر ، لما وقع بين ربيعة ومضر تباين وحرب بالبصرة
__________________
(١) ديوان الأحوص ١٥٣ ، شرح الأعلم ١ / ١٩٠ ، شرح النحاس ١٦١ ، شرح السيرافي ٣ / ١٧٧.
(٢) شرح الأعلم ١ / ١٩١ ، شرح السيرافي ٣ / ١٨٠ ، شرح المفصل ١ / ١١٧.