وكان المبرد والزجاج يذهبان إلى أن المنصوب في الاستثناء ينتصب بتقدير : " استثنى" ، ويجعلان" إلا" نائبة عن" استثنى". وهذا غير صحيح لأنك تقول : أتاني القوم غير زيد فتنصب غيرا. ولا يجوز أن تقدر استثني غير زيد ، وليس قبل" غير" حرف تقيمه مقام الناصب له ، وإنما قبله فعل وفاعل ، ولا بد له ـ إن كان منصوبا ـ من ناصب ، فالفعل هو الناصب ، وناصب" غير" هو الناصب لما بعد" إلا".
قوله : ومثله في الانقطاع عن أوله : إن لفلان مالا إلا أنه شقي.
يعني" بالانقطاع من أوله" ، أنه ليس ببدل منه ، لأنه ذكر : " ما مررت بأحد إلا زيدا" وما بعده مما نصبه بالاستثناء ، ولم يحمله على ما قبل" إلا" من طريق البدل ، وكذلك لم يحمل" أنه شقي" على البدل مما قبله ، ولا سبيل إلى البدل فيه لأن ما قبل" إلا" موجب.
وقدر سيبويه هذا" بلكن" وحكمها ، أن يكون ما بعدها ضدّا لما قبلها.
فإن قال قائل : فكيف يكون هذا الحكم في المسألة؟
قيل له : إذ قال : " إن لفلان مالا" ، فقد أخبر أنه سعيد لملكه المال ، ثم استدرك ذلك بقوله : إلا أنه شقي ، كأنه قال : إلا أنه بخيل على نفسه ، شقي بترك الانتفاع بماله والتلذذ بإنفاقه.
هذا باب يختار فيه النصب لأن الآخر
ليس من نوع الأول وهو لغة أهل الحجاز
اعلم أن قولهم : ما فيها أحد إلا حمارا ونحوه مما يشتمل عليه الباب ، فأهل الحجاز ينصبونه لأنه ليس من نوع الأول ولم يبدلوه منه إذا كان من غير نوعه.
وأما بنو تميم ، فرفعوه على تأويلين ذكرهما سيبويه :
أحدهما : أنك أردت ما فيها إلا حمار ، وقولك : ما فيها حمار ، قد نفيت به الناس وغيرهم في المعنى ، ودخل في النفي من يعقل ومن لا يعقل ، ثم ذكرت" أحدا" توكيدا ، لأن يعلم أنه ليس بها آدمي.
والوجه الآخر : أن تجعل المستثنى من جنس ما قبله على المجاز كأن الحمار هو من أحد أناسي ذلك الموضع ، ومن عقلاء ذلك الموضع. وعلى هذا المجاز أنشد سيبويه الأبيات.
وقال المازني فيه وجه ثالث : وهو أنه خلط من يعقل بما لا يعقل ، فعبر عن جماعة ذلك بأحد ثم أبدل" حمارا" من لفظ مشتمل عليه وعلى غيره ، وعلى هذا قول الله عز وجل : (فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ) [النور : ٤٥] لما خلط من يعقل بما لا يعقل في قوله : (كل دابة) ، خبر عنها كلها بلفظ من يعقل.
وأنشد سيبويه ـ محتجّا لمذهب بني تميم في البدل على المجاز ـ لأبي ذؤيب