وهذا كله يؤكد ما ذكرناه في البيتين إن شاء الله تعالى.
باب ما يجري على الموضع لا على الاسم الذي قبله
اعلم أنك إذا قلت : ليس زيد بجبان ولا بخيلا ، جاز النصب في بخيل والجر ، غير أن الجر أجود ؛ لأن معناهما واحد ، ولفظ الآخر مطابق للفظ الأول ، فإذا تطابق اللفظان مع تساوي المعنيين كان أفصح من تخالف اللفظين ، والعرب تختار ذلك وتحرص عليه وتختار حمل الشيء على ما يجاوره حتى قالوا : هذا جحر ضب خرب فجروا «خربا» وهو نعت للجحر لمجاورة الضب.
فلما كان هذا من كلامهم في ما لا يصح معناه جائزا كان فيما يصح معناه كاللازم ، فلهذا كان الاختيار «بخيل» على «جبان» لقربه منه ، وبعده عن «ما» و «ليس» مع صحة المعنى.
وأنشد لعقيبة الأسدي :
* معاوى إننا بشر فأسجح |
|
فلسنا بالجبال ولا الحديدا (١) |
فحمله على موضع الباء لو لم تكن.
وهذا البيت يروى مع أبيات سواه على الجر منها :
أكلتم أرضنا فجردتموها |
|
فهل من قائم أو من حصيد |
وخالف سيبويه في هذا جماعة من أهل اللغة فقالوا :
الرواية ولا الحديد عطفا على اللفظ ، واستدلوا على ذلك بالبيت الذي ذكرناه وغيره.
والحجة لسيبويه أنه لا يدفع عن الثقة والصدق ، فيجوز أن يكون الذي أنشده إياه نقل هذا إلى النصب ، ويجوز أن يكون من قصيدة منصوبة.
وأكثر أحواله أن يكون أراد أن يريك أنه جائز عنده وعند جميع النحويين ، ومعنى أسجح : سهل وأرفق.
قال : «ومثل ذلك قول لبيد» :
* فإن لم تجد من دون عدنان والدا |
|
ودون معدّ فلتزعك العواذل (٢) |
وكان الوجه دون «معد» عطفا على «من» ولكنه نصبه على الموضع ،
ومعنى وزعه : كفه. يقول : انتسب إلى آخر أجدادك ، فإن لم تجد بينك وبينهم أبا إلا ميتا فلتزعك العواذل على ما أنت عليه من الزهد في الدنيا ، ولتتبع هواهن وهذا منه على طريق الوعيد لنفسه ، أي : لا ينبغي لك أن تطيعهن.
ويجوز أن تكون العواذل : مواعظ الدهر ، وما يزجره عن الرغبة في الدنيا والاستكثار منها.
__________________
(١) شرح الأعلم (١ / ٣٤ ـ ٣٥٢) ، معاني القرآن ٢ / ٣٤٧ ، المقتضب (٢ / ٣٣٧ ، ٣ / ٢٨١ ، ٤ / ١١٢).
(٢) ديوان لبيد ٢٥٥ ، شرح الأعلم ١ / ٤٣ ، المقتضب ٤ / ١٥٢ ، شرح السيرافي ٢ / ٤٠٥.