والآخرة وذلك هو الخسران المبين ، ولكن أهل الآخرة ركبوا الدنيا وعبّدوها فتذللت لسلطانهم واستعبدت لهم فربحوا الدنيا والآخرة (١) : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١٨ : ١٠٤).
فالدنيا ـ إذا ـ محظورة ومحبورة من أبصر بها بصرته ومن أبصر إليها أعمته» (٢).
فقد يسمع الامام علي (ع) رجلا يذم الدنيا فيقول له : «أيها الذام للدنيا ، المغتر بغرورها ، المخدوع بأباطيلها ، أتغتر بالدنيا ثم تذمها؟ أنت المتجرم عليها أم هي المتجرمة عليك؟ متى استهوتك أم متى غرتك؟ أبمصارع آبائك من البلى ، أم بمضاجع أمهاتك تحت الثرى؟ كم عللت بكفيك؟ وكم مرضت بيديك؟ تبغي لهم الشفاء ، وتستوصف لهم الأطباء ، غداة لا يغني عنهم دواؤك ، ولا يجدي عليهم بكاءك ، لم ينفع أحدهم إشفاقك ، ولم تسعف فيه بطلبتك ، ولم تدفع عنه بقوتك ، وقد مثلت لك به الدنيا نفسك ، وبمصرعه مصرعك.
إن الدنيا دار صدق لمن صدقها ، ودار عافية لمن فهم عنها ، ودار غنى لمن تزود منها ، ودار موعظة لمن اتعظ بها ، مسجد أحباء الله ، ومصلى ملائكة الله ، ومهبط وحي الله ، ومتجر أولياء الله ، اكتسبوا فيها الرحمة ، وربحوا فيها الجنة ، فمن ذا يذمها وقد آذنت ببينها ، ونادت بفراقها ، ونعت نفسها وأهلها ، فمثلت لهم ببلاءها البلاء ، وشوقتهم بسرورها إلى السرور ، راحت بعافية ، وابتكرت بفجيعة ، ترغيبا وترهيبا ، وتخويفا وتحذيرا ، فذمها رجال غداة الندامة ، وحمدها آخرون يوم القيامة ، ذكرتهم فتذكروا ، وحدثتهم فصدقوا ، ووعظتهم فاتعظوا».
__________________
(١) نهج البلاغة ١٣١ ح / ٥٩٠.
(٢) هذا من كلمات الامام علي أمير المؤمنين (ع).