وترى (فَمَا اسْتَقامُوا) تتجزء في أقدار الاستقامة بأجزائها؟ ففيما يستقيمون فاستقيموا وفيما ينقضون فانقضوا إذا كان للمعاهدة بنود.
ولكن (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) قد تنافي التجزؤ ، اللهم إلّا أن «أتموا» وجاه (لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) جمع قبال جمع ، فإذا أتموا أتموا ، ثم «ما (اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) كما وأنه قضية العدالة والمقابلة بالمثل ، ثم قد تعمم (فَمَا اسْتَقامُوا) فرض «فاستقيموا» وإن بعد موتهم ، حيث الأصل لسماح أو فرض قتالهم هو فتنتهم ، فحين يستقيمون بعهد ودون عهد فواجب الاستقامة لهم قائم ، بل وبأحرى بعد تمام مدتهم ، حيث إن الالتزام بالمعاهدة بعد تمام مدتها أدل على سلمهم طيلة المدة.
إذا (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) قد تعني إلى مدة عهدهم مدة الالتزام بالمعاهدة ، أم لا مفهوم له أن قاتلوهم بعد تمام المدة وإن كانوا ملتزمين بما التزموه في نفس المدة.
وهنا «ما» في (فَمَا اسْتَقامُوا) إما شرطية مضمّنة الزمان وهي الأشبه ، أم زمانية ، وعلى أية حال ف «ما» تطلق شرط الاستقامة بجزاءها إلى مدتهم بعد موتهم.
ثم ترى بعد (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) حصر للوفاء بالمعاهدة فيهم؟ ولا حصر واقعيا فيهم! ذلك حصر فيمن يستقيمون ، وهؤلاء كانوا مثالا للاستقامة لمكان (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) فليس للمسجد الحرام والذين عاهدوكم عنده ميزّة في ذلك الاستثناء إلّا مصداقية بارزة لهم دون حصر ، فما هذا الاستثناء استثناء بموضوع يفيد الحصر ، بل بمصداق بيّن منه كما في الإيمان عند رؤية الناس : (فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ) (١ : ٩٨).
ثم وضابطة (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) محكّمة لكل هؤلاء