فأراد ان يشرك أبصارهم ببصائرهم ، وحواسهم مع افئدتهم علّهم الى رشدهم يثوبون وعن غيّهم يتوبون :
(فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) ٥٨.
خلى الجو من رصد العيون ، فدلف الى أصنامهم فوجد باحة قد اكتظت بالتماثيل وانتشرت في ارجائها الأصنام فخاطبها محتقرا لشأنها «ألا تأكلون! ما لكم لا تنطقون» وأنّى للحجارة ان تأكل او تنطق ، فأخذ يلطمها بيده ويركلها برجله وتناول فأسا وهوى عليها يكسرها ويحطمها حتى جعلها جذاذا الا كبيرا لها في أجسادها ، ليجعلها جذاذا في قلوب عابديها بذلك الواقع ، بعد ان جعلها جذاذا من ذي قبل ب (ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ) جذاذات ثلاث تجتث جذور الخرافة الشركية لو كانوا يعقلون.
فلقد كاد أصنامهم ب (إِنِّي سَقِيمٌ. فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) حي خلى الجو لما اعتزم ، ثم جعلهم جذاذا : قطعا مكسورة مفتّتة مهشّمة (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) يرأسهم كأنه إله الآلهة (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) حيث الموقف يتطلب رجوعا الى كبيرهم كمتّهم في جعلهم جذاذ فيسألونه كيف وقعت الواقعة وهو حاضر فلم يدفع عن صغار الآلهة ، ام هو الذي جعلهم جذاذا ليبقى في الميدان وحده كما هو قضية الحال في تعدد الآلهة لو كانوا يشعرون : «ولعلى بعضهم على بعض»! ثم رجوعا الى ابراهيم الذي تركوه لحاله وهو المتهم الثاني إذ لا حول ولا قوة لكبيرهم ، ومن ثم رجوعا الى الله بعد انتباهة هنا وهناك ، وضمير المفرد الغائب في «اليه» يتحمل الرجوع الى كلّ من الثلاثة على الأبدال ، حيث الكل من بنود الرجاء لإبراهيم وقد حصل على الأولين تماما ، وعلى الأخير بعضا حيث زلزل اركان تقاليدهم العمياء.