وهنا نرى تلك الأنفس الفالتة عن عقولها ، المتخبطة في كل حقولها ، ترجع الى أنفسها عند الجواب الحاسم القاصم :
(فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) ٦٤.
بادرة خير في أنفسهم الخاوية ان يحكموا بظلمهم أنفسهم دون ابراهيم ، حيث «أنتم» تحصر «الظالمون» فيهم ، تبرئة لساحة ابراهيم عن الظلم فيما فعل ، بل هو العادل فيما فعل حيث رجّعنا إلى أنفسنا واشعرنا بظلمنا أنفسنا.
فاتحة فيها بارقة الأمل كما تفأّل : (لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ) تفتحا لبصائرهم لأوّل مرة في حياتهم المشركة ، وتدبرا في ذلك السخف الذي كانوا عنه صادرون ، والظلم الذي كانوا هم فيه سادرون ، وقد قالوا من قبل (مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ) فما مضى إلّا آونات حتى حكموا على أنفسهم : (إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ) وما أحلاه كلمة حق على لسان المبطل بحجة رسالية وامضة كهذه ، تجعل حجتهم داحضة وتراهم «فقالوا» كل للآخر؟ والكل غرقى في لجة الحجة! ولم يكونوا ليصارحوا بهذه النكسة أمام ابراهيم! ام كل لنفسه في نفسه؟ وهذه قضية الموقف ، و «أنفسهم» دون «بعضهم الى بعض» كما «اقبل (بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ. قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ) (٦٨ : ٣١) دون (عَلى أَنْفُسِهِمْ).
وقد تعني «أنفسهم» هنا ما عنته (فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) رجوعا لكلّ الى نفسه ، ثم الى الآخرين دون مصارحة تعرف ، في لمحات وإشارات فيما بينهم ، ولكن ابراهيم وهو شيخ العارفين عرف رجوعهم الى ذات أنفسهم فضلا عن اشاراتهم لمن سواهم ، ومن ثم أدركتهم الحيرة وعقد الحصر ألسنتهم فأطرقوا برؤسهم منكرين واستجمعوا شارد عقولهم :
(ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ) ٦٥.