تبرز لنا دوما تغييرا وتحويرا ، من موت الى حياة ومن حياة الى موت : قوات تطير وتثير وتغير ، ناقلة مواد الحياة الى الأموات فتحييها يوم الدنيا بإذن الله ، كذلك هي هي في الأخرى ـ وبأحرى ـ تنفذ مشيئة الله العليم القدير العدل البصير.
فالله يسوق السحاب الى بلد ميت فيحييه بأمطارها الغزيرة لإناقة الحياة الدنيا وهي الأدنى ، كذلك الله هو السائق لسحاب رحمته الى أراضي الأبدان لتحيي مرة أخرى ، فتجزى كل نفس بما تسعى ، وهي أهون عليه وأحرى : (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) (٣٠ : ٢٧) أهون بحساب الخلق ، واما في حساب الله فالكل له هين على سواء.
ومن جهة أخرى ، فهذا النظام الدقيق الأنيق المحير للعقول ، غير حقيق أن يحصر في دنيا الحياة الدائرة فيصبح عبثا ، وإنما هو بصورة أدق وآنق يتجلى يوم الدين (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ).
(إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ) من وعد الحياة بعد الموت ، والجزاء بما عملتموه قبل الموت ، (وَإِنَّ الدِّينَ) : الطاعة «لواقع» فالدين طاعة في الدنيا ، وظهور للطاعة بحقيقتها يوم الدين ، فليس الجزاء إلا نفس العمل صالحا وطالحا ، طالما الطاعة يزيدها فضل من الله ورحمة.
وهل هذه الأربع المقسم بها واحدة في حالات اربع بتأويل ان الفاء لترتيب الأفعال والذات واحدة؟ ام اربع ، لان الفاء لترتيب الفواعل في مختلف الأفعال؟ ام متداخلات بعضا ومستقلات في بعض؟ إن تفاسيرها المسبقة تشير الى الأخير ، وان كانت الفاء في الثلاثة الأخيرة تفرعها على الأولى ، فليس لزامه الوحدة ، كما ليس الكثرة ، فترتب الأفعال يناسبهما معا وتتبع القرائن للتمييز.
(وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ) : جمع الحبيكة ، وهي الطريقة الحسنة (١) المتينة
__________________
(١) لقد جاء في النظم هذا المعنى عن عمرو بن مرة يمدح النبي (ص) : لأصبحت خير الناس نفسا ووالدا «رسول مليك الناس فوق الحبائك» وفي اللغة كل شيء أحكمته وأحسنت عمله فقد احتبكته.