وزمن خاص وكما يروى (١) ، ففريق رعوها حق رعايتها ، وآخرون لم يرعوها.
وقد تكون «رهبانية» بين جعل وكتابة إلهيين على كونها عطفا ل «مودّة ورحمة» فالمجعول هو رهبة الرهبانية ، جعلها الله في قلوبهم مع المودّة والرحمة : (وَجَعَلْنا ... وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ...) والمكتوب هو الرهبانية الحقة بعد ما ابتدعوها ، والمبتدعة هي الانعزالية المطلقة عن الحياة إلى عبادة الله (٢).
إنهم حينما ابتدعوا الرهبانية ، كتبها الله عليهم ابتغاء رضوانه ، رفضا لما فيها من غايات اخرى ، فأصبحوا إذن مرتبطين بها أمام الله أن يرعوها حق رعايتها بما رفضوه عن أنفسهم وحرّم الله ، وما فرضوه على أنفسهم وكتب الله ، حفاظا على متطلباتها من تطهّر وترفع وعفة ومناعة وقناعة وعبادة ، مما يحقق في نفوسهم حقيقة التجرّد لله ، ولكنها انتهت في الغالب الى طقوس جوفاء ، فارغة عن الروح البراء ، تجارة كغيرها من تجارات ، إلا أنها بالدين وما أتعسه وأخسره من عناء لعناء!.
__________________
(١) مجمع البيان عن ابن مسعود قال : كنت رديف رسول الله (ص) على الحمار فقال يا ابن ام عبد! هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية؟ فقلت : الله ورسوله أعلم ، فقال : ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى (ع) يعملون بمعاصي الله ، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم ، فهزم اهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل فقالوا : إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا ولم يبق للدين أحد يدعو اليه ، فتعالوا نتفرق في الأرض الى ان يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى (ع) ـ يعنون به محمدا (ص) ـ فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية ، فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر ، ثم تلا هذه الآية : «ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله» ، ثم قال (ص) : يا ابن ام عبد! أتدري ما رهبانية امتي؟ قال : الله ورسوله أعلم ، قال : الهجرة والجهاد والصلاة والصوم والحج والعمرة.
(٢) «إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ» استثناء متصل كما بينا ، وكونه منقطعا ينافي وجود المفعول «ها» في «ما كتبناها» فلا معنى لكونه منقطعا إلا على تاويل مستهجن يذاد عنه ساحة كلام الله بل وكل كلام فصيح او وعادي غير فصيح.