وأخيرا تأتي آية المائدة ـ وهي آخر ما نزلت ، ناسخة غير منسوخة ـ تأتي ناسخة لعموم الحرمة في الكتابيات فقط : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ ..) (٥ : ٥) فصدرها يدل على سابق الحرمة : (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ).
فإنما خرجت عن حرمة الزواج الكتابيات ، على شروط فصلت في الروايات دون الكتابيين على المؤمنات ، فهم باقون على قوة الحرمة بعمومها في آية الممتحنة ، وبما يقرب النص في آية البقرة : (أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) فسيطرة الزوج على الزوجة في مختلف الطاقات والإمكانيات والمتطلبات تجعل لدعوته إياها تأثيرا ، دون العكس ، إلا بالمغريات والملهيات ، فدعوة إلى النار لها زوجها المؤمن ، أو ولدها ، فهذا الزواج أيضا محظور ، وكما تؤيده الروايات.
وما ألطف التشريع في هذه الآيات الثلاث ، ان الاولى تعم الحرمة في الكافرات ، مشركات أم كتابيات ، والثانية تعتبر موضوع الحرمة المشركين والمشركات ، مع التلويح ـ لمكان الغاية والتعليل ـ إلى حرمة الكتابيات ، والثالثة الناسخة تحلل الكتابيات ، وتبقي الكتابيين في عموم التحريم ، والروايات الناظرة إلى الآيات ، والمفسرة لها متضاربه ، بين ما يوافق هذه الآيات الثلاث وما في مجراها فمقبولة (١) أو لا توافقها ، أو تخالفها فمضروبة عرض
__________________
(١) الوسائل ١٤ ب ٢ ص ٤١٣ ج ٦ علي بن الحسين المرتضى في رسالة المحكم والمتشابه نقلا عن تفسير النعماني باسناده عن علي (ع) قال : وأما الآيات التي نصفها منسوخ ونصفها متروك بحاله وما جاء من الرخصة في العزيمة فقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ) وذلك ان المسلمين كانوا ينكحون في أهل الكتاب من اليهود والنصارى وينكحونهم حتى نزلت هذه الآية نهيا أن ينكح المسلم من المشرك أو ينكحونه ثم قال تعالى في سورة المائدة : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) فأطلق الله مناكحتهن بعد ان كان نهى وترك قوله : (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا) على حاله لم ينسخه.
أقول : وهو مقبول على تأمل في سابق حل الكتابي ذكرا وأنثى. ومما يلائم الآيات الأحاديث المعللة لمنع نكاح الكتابيات كما رواه عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (ع) في حديث قال : (وما أحسب للرجل المسلم أن يتزوج اليهودية ولا النصرانية مخافة أن يتهود ولده أو يتنصر).
وما رواه معاوية بن وهب وغيره جميعا عن أبي عبد الله (ع) في الرجل يتزوج اليهودية والنصرانية فقال : إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهودية والنصرانية؟ فقلت له : يكون له فيها الهوى ، قال : إن فعل فليمنعها من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، واعلم أن عليه في دينه غضاضة.