هنا إيمان أول هو رسمه وصورته قبل أن يتعرّق في القلوب ، وهو الإيمان التقليدي ، فهو لا ينجي ـ بمجرده ـ من عذاب أليم ، إنما هو رأس مال يتجر به ، والتجارة تصرف في رأس المال طلبا للربح ، وهذا الإيمان الأول هو رأس مال لربح الإيمان العريق بالله ورسوله والجهاد في سبيله بالأموال والأنفس ، ثم هذا الربح أيضا رأس مال لتجارة ثانية وربحها النجاة من عذاب أليم ، تجارة متسلسلة ترجع لآخر المطاف الى نجاة قاطعة عن حياة بئيسة في الدنيا وفي الآخرة ، دون اختصاص بالأولى ، مهما كانت في الآخرة أتمّ وأولى.
إنها تجارة من رأس مالها أنفس المؤمنين وأموالهم ـ وهي من الله ـ : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ... فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ) (٩ : ١١١).
فبأنفسهم يؤمنون بالله ورسوله ثانيا ، ويفتدون بهما في سبيل الله مجاهدين ، وبأموالهم كذلك يجاهدون صرفا لها في سبيل الله ، ولكي تصبح حياتهم المؤمنة كلها قنطرة وسبيلا لله دون أن يكون لغير الله فيها نصيب.
في آية التجارة تقدّم الأموال لتقدّمها في تقديم المجاهدين بالعدد المكافحة ، ثم إذا نفدت الأموال أو ما كفت أو ما أفادت لحسم جذور الفساد ، فلتقدّم الأنفس فداء بعد الأموال في سبيل الله ، وفي الآية الثانية تقدّم الأنفس لأنها الأصل في الجهاد ، وإذا قدّم الأصل فتقديم الفرع ـ وهو المال ـ سهل.
ومن عوائد هذه التجارة غفر الذنوب ودخول الجنة ، إيجابا للرحمة بعد البعد عن العذاب :
(يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) :
فغفر الذنوب كلها «ذنوبكم» الغابرة والحاضرة ـ وهي صغائر المعاصي ـ إنه رهين هذا الإيمان العقائدي والعملي التام ، فإنه يضم كبائر الطاعات فعلا :