هذه السورة تقرر حقيقة الجن وكيانهم وشعورهم نحو الشريعة ومشابهتهم الإنس في الأحكام إلا ما يفرقهم عنه افتراق الجنس ، ثم هي تقف موقف الوسط بين الإغراق في الوهم ممن يزعمهم مسيطرين على الإنس ، وبين الإغراق في الإنكار ممن ينفي حتى وجودهم ، فتقرر ان لهم حقيقة موجودة ، نتعرف إليها في طيات الآيات هنا وفي سائر القرآن ، فمن ميزاتهم خلقهم قبل الإنس : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ) (١٥ : ٢٧) وانهم محجوبون عن الإنسان مبدئيا ، يرونه ولا يراهم : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) (٧ : ٢٧).
ومن ميزات الإنس استقلال الرسالة الإلهية فيهم دائما دون تبعية للجن ، ولكنما الجن تتبع الإنس فيها وكما ندرسه في هذه السورة.
ثم هما مشتركان في التكليف ، والبعث والعقاب : (قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ ...) (٧ : ٣٨) وأنّ فيهم الجنسين يتكاثرون بالتناسل كالإنسان : (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً) (٧٢ : ٦) (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) (١٧ : ٥٠) وفي غير ذلك.
وهل فيهم أنبياء منهم ، أم هم دوما أتباع لأنبياء الإنس؟ نتبين ذلك وكثيرا مثله في هذه السورة :
(قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً).
فمن هؤلاء النفر؟ هل هم رسل الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم إلى سائر الجن دون أن يوحى إليهم بشيء؟ أم هم رسل الله اليه ليستمعوا منه وحي القرآن ، دون أن يستقلوا بوحي الرسالة الاسلامية ولو تبعا للرسول ، وانما اوحي إليهم ليستمعوا منه القرآن فيولوا إلى قومهم منذرين؟ قد يلمح القرآن إلى وحيهم هذا : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ. قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً