(ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ) وفي آخر المطاف : (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ)!
كرر أيها الناظر نظرك إلى السبع الطباق ، من بعيد ، وأحرى لك من قريب ، على ضوء غزو الفضاء ، مفكرا في عجائبها ، مستنبطا غوامض تراكيبها (يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً) : بعيدا عما طلبه ، من نقد في نظمها أو غور في ماهيتها (وَهُوَ حَسِيرٌ) : ذليل بفوت ما قدّره من تفاوت وتناحر : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) (١٠ : ١٠١) وأما المؤمنون من الناظرين في آيات الأرض ، ومن غزاة الفضاء ، فهم تغنيهم آياتها ، دلالة على مدبر واحد حكيم.
إن الخاسئ هو البعيد المرذول ، وكما يخسأ الكلب ، والحسير هو البعير المعيى ، الذي بلغ السير مجهوده ، واعتصر عوده ، فالبصر يرجع بعد كرتيه ، وسروحه في طلب مراده ، وإبعاده في غايات مرامه ، يرجع كالا معيى بعيدا مرذولا ذليلا من إدراك بغيته ، ونيل طلبته ، من اكتناه حكمة الخلق ، أو نقد زعم التفاوت فيه.
فليتجول الجوالون في غزوهم الجوي ، ولينظر الناظرون ، فليس آخر المطاف إلا عجزا عن الغور ، دون أن يدركوا فطورا وفتورا إلا في أنفسهم ، إذ لا تبلغ قمة المعرفة بخلق الرحمان ، وكيف بالنقد فيه ، أو شبهة فيما يحويه ، اللهم إلا لمن سامح عن عقله ، ولجّ في غيه ، فليخسأ وهو حسير!.
إن الكائنات ، رغم اختلافها في صفاتها وماهياتها ، وعناصرها ، وجزئياتها ، وذراتها ، فالاختلاف في آثارها وخواصها ، وتفاعلاتها ، إنها بالرغم من كل ذلك متلائمة متناسقة ، تحصل من ازدواجها وحدة ، ومن قربها وحدة ، ومن خلطها وحدة ، ومن بعدها وحدة ، تضرب ـ على تضاربها ظاهريا ـ إلى وحدة أنيسة رحيمة أليفة ، مما يدل على مدبر ومكون واحد.
(تفسير الفرقان ـ ج ٢٩ ـ م ٢)