انه لا يملك حتى البلاغ الإلهي سلبا وإيجابا ، فكما لا يملك لكم ضرا ولا رشدا ، إلا بلاغا من الله ، كذلك : لن يجيره من الله أحدا ولن يجد من دونه ملتحدا (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ) ففيما يملك البلاغ ، لا يملك سلبه ولا إيجابه إلا من الله ، فانها ليست تطوعا يتقدم به صاحب الرسالة ، وإنما تكليف صارم جازم لا محيد عنه ولا مفر من أدائه ، فالله من ورائه.
فالبلاغ البالغ اللائق من الله ، قلبا وقالبا ، عقيدة وعملا ، تضحية وفداء : هذا البلاغ يجيره من الله ، وهو ملتحده من الله ، وهو الذي يملكه من الله بما ملكه إياه ، فلو عصاه في بلاغ الرسالة لعذب في المعذبين :
(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) عصى الله في محكم كتابه ، وعصى رسوله في سنته الجامعة ، فعاش حياة العصيان المزدوج (فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً).
فمجير الرسول وملتحده هو بلاغه من الله ، وملتحد غيره ومجيرهم طاعة الله ورسوله ، وقد تلمح الآيات أن جماعة من لبد الكفر والشر طلبوا منه ترك البلاغ أو تخفيف وطأته فيضمنوا له الإجارة من الله وملتحده ، فيبتدر بجوابه الحاسم : لا. وحقا لا ، (إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللهِ وَرِسالاتِهِ) :
(بَلاغاً مِنَ اللهِ) : بلاغ التعريف بتوحيده وربوبيته لمن جهله أو تجاهل عنه أو عانده ـ و «رسالاته» لإخراج الناس من الظلمات إلى النور وهديهم إلى صراط العزيز الحميد ، دون خشية ولا مسايرة (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً).
(حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً) : تنديد شديد وتهديد عتيد لمن يبلغه هذا الأمر ثم يعصي ، فإذا يركن العاصون إلى عدد وعدد ، ويستصغرون قوة صاحب الرسالة بجنب قوتهم ، فسيعلمون غدا من أضعف ناصرا وأقل عددا ، وأي الفريقين أحق بالأمن ، ولكن متى؟ إذا رأوا ما يوعدون ، وذاقوا وبال أمرهم ولهم عذاب مهين؟