تبتيلا لمن أرسلت إليهم ، فكما كان قيامك بالليل تهيؤا لتلقي القول الثقيل ، ولتسبح نهارك الطويل ، كذلك ليكن تبتلك للتبتيل.
فليس الإتيان بالتبتيل هنا لمجرد رعاية الوزن والتجميل «طويلا. تبتيلا» فالقرآن كتاب معنى قبل أن يحمل الوزن في التعبير ، وقد يناسب وزن المعنى وزن التعبير كما هنا (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) تبتلا ينحو في طياته منحى التبتيل لتنقطع إلى الله ، لك كمحمد ، وللمرسل إليهم كرسول ، فكما على الرسول أن يتبنى شخصه ليصلح لحمل الرسالة ضمن صناعة نفسه كعبد شكور ، فعليه ـ كرسول ـ أن يتبنّى المجتمع الذي أرسل إليهم.
ثم هناك نكتة أخرى هي أدق وأرقى : أن المنقطع إلى الله مشغول عما سواه والمنقطع إلى ما سوى الله مشغول عن الله ، فالجمع بين التبتل ـ وهو الاشتغال التام بالله ـ وبين التبتيل ، وهو الاشتغال بغير الله ليقطعهم عما سوى الله : ان هذا الجمع لصعب مستصعب ، لكنما الرسول يؤمر في تبتله بالتبتيل ، ففي حين انه مشتغل بالله عما سواه ، إنه يشتغل بما سواه لتوجيههم إلى الله ، وهذا هو مقام الجمع في الوحدة والوحدة في الجمع ، يسبح نهاره طويلا في الدعوة إلى الله ، ويلاقي الصعوبات والحرمانات في الله ، وهو متبتل إلى الله ومبتّل سواه عما سوى الله ، فذكره ذكر واحد ، وعمله واحد ، طالما يختلف في صور الصلاة وترتيل القرآن وذكر الله ، وفي الجهاد والدعوة إلى الله ، فإنه ينحو في هذا السبح الطويل منحى الله ، فتبتّله تبتيل ، وتبتيله تبتّل!.
ولطيفة ثالثة : هي أن التبتل هو تقبل للبتل ، والتبتيل هو فعله ، فقد يعنى بالأول قبوله العصمة الإلهية في انقطاعه إلى الله ، وبالثاني محاولته لانقطاعه ومن سواه إلى الله ، والنتيجة أن انقطاعه الخاص إلى الله ليس من فعله هو فحسب ، وليس تسييرا إلهيا فحسب ، وإنما هو أمر بين أمرين ، جذبة إلهية متممة لمحاولة الانجذاب والانقطاع إلى الله ، وكما العصمة في كافة مراحلها ليست إلهية خالصة ولا بشرية خالصة ، إنما هي سعي حسب المستطاع من المعصوم في البداية ، ثم جذبة الهية ، ثم سعي ثان يوافق ويساير تلك العصمة الخاصة الإلهية.