الفصل الرّابع
الجغرافيون اللغويون ورحالو القرن التاسع
فى القرن التاسع ظهرت لدى العرب جغرافيتهم الرياضية ؛ وقرب منتصف ذلك القرن بدأت تتشكل الجغرافيا الوصفية ببطء ملحوظ فى أول الأمر كأنما كانت تتحسس الاتجاهات التى ستسلكها فى تطورها التالى ؛ ذلك أنها لم تحد أمامها نماذج معدّة لتسير وفقا لها. وهذا الميدان لم يشتغل به ممثلو العلوم الدقيقة بقدر ما اشتغل به اللغويون الذين أخضعوا المادة لمطالبهم. ومن العسير علينا أن نحكم على المحاولات الأولى فى هذا المجال ، ذلك أنه لم يحفظ لنا فى معظم الأحوال من المصنفات إلا أسماؤها فحسب. وفى بداية النصف الثانى للقرن التاسع فقط بدأت تظهر مصنفات قائمة بذاتها ولكنها لم تعرف إلا فى روايات أو موجزات بأقلام بعض المتأخرين :
وقد سبق لنا الحديث عن بعض الأنماط الألى فى صياغة المادة الجغرافية بواسطة اللغويين ، أعنى ما يعرف «بكتب الأنواء» التى ضمنها اللغويون جميع صنوف الملاحظات عن الطقس وظواهر الطبيعة الأخرى مصحوبة بتعليقات لغوية وغير لغوية. وقد ربط العرب الأقدمون الأنواء بحركات المنازل القمرية وأورثوها الخلف فى أغلب الأحيان على هيئة سطور قصيرة مسجوعة يكثر فيها غريب اللغة حتى احتاجت منذ القرن التاسع إلى الشرح والتوضيح. وقل أن وجد عالم لغوى من المتخصصين فى العهد الجاهلى لم ير من اللازم أن يظهر علمه بالأنواء فى هيئة رسالة خاصة. وتبدأ سلسلة هذه الرسائل فى الأنواء فى الحد الفاصل بين القرنين الثامن والتاسع بمؤرج السدوسى (توفى عام ١٩٥ ه ـ ٨١٠) (١) أحد المقربين إلى المأمون عندما كان الأخير واليا على خراسان ؛ وتمضى السلسلة هكذا متصلة الحلقات على امتداد القرنين التاسع والعاشر ؛ ويمكن أن نكون فكرة عنها من خلال الاقتباسات العديدة الموجودة غالبا فى المعاجم العربية. ولعل أبعدها صيتا على الإطلاق مصنف لأبى حنيفة الدينورى (توفى عام ٢٨٢ ه ـ ٨٩٥) المعروف لنا على الأخص كمؤرخ. وأحد الأمثلة الفريدة لكتب الأنواء يقدمه لنا «تقويم قرطبة» The Calendar of Cordova المشهور لعام ٩٦١ ه ؛ وهو بالطبع ليس مصنفا لغويا بل مرشدا لصغار المزارعين يقدم لهم معلومات لا فى الزراعة فحسب بل وفى الفلك والطقس. ولإعطاء فكرة عن الأساس الذى يستند عليه يكفى أن نذكر فقط تقسيمه للعام إلى ثمانية وعشرين منزلا قمريا ؛ كما وأن العنوان الذى اتخذه باللاتينية وهوLiber Anoe