قد نقل عنه كثيرا كما يزعم الوراقون معاصره الأصغر منه سنا أبو عبيدة (توفى عام ٢٢٣ ه ـ ٨٣٧) الذى أمضى معظم سنى حياته كالنضر بخراسان (٧). ويمثل معجمه «غريب المصنف» محاولة مبكرة لتوزيع المادة اللغوية حسب الأنواع (٨) ؛ وبالطبع فإن المادة الجغرافية لديه قد وردت على نفس الصورة التى كانت عند النضر.
أما فيما يتعلق بالجغرافيا الإقليمية (Regional) فقد انصرف اللغويون انصرافا تاما إلى جزيرة العرب. وقد لاحظ ياقوت بالكثير من الدقة ، وذلك عند تحليله لمصادر معجمه ، أن الكتب التى صنفت فى أسماء الأماكن صنفان «منها ما قصد بتصنيفه ذكر المدن المعمورة والبلدان المسكونة المشهورة ... ومنها ما قصد به ذكر البوادى والقفار واقتصر على منازل العرب الواردة فى أخبارهم والأشعار» (٩) ، فأولئك «الذين قصدوا ذكر الأماكن العربية والمنازل البدوية» فهو ينسبهم إلى «طبقة أهل الأدب» (١٠) ، أى اللغويين كما أسميناهم فى هذه المناسبة ؛ وقد التقينا فيما بينهم بعدد غير قليل من الشخصيات المشهورة ولكن منهجهم جميعا فى التأليف يكاد يكون واحدا.
ويجب أن يحتل مكانة أولى فى هذا التراث الجغرافى اللغوى ، وذلك ليس من ناحية الأسبقية الزمنية فحسب ، المؤرخ المشهور هشام الكلبى (توفى حوالى عام ٢٠٦ ه ـ ٨٢٠) (١١) وهو خبير ممتاز بالجاهلية وصاحب «كتاب الأصنام» الذى يكاد يمثل إلى الآن المصدر الأساسى للتعريف بأديان عرب الجاهلية ، وأيضا كتاب كبير فى الأنساب هو «جمهرة الأنساب». والاعتراف به كحجة فى هذه الموضوعات يوكده بشكل قاطع قول ياقوت «ما تنازع العلماء فى شىء من أمور العرب إلا وكان قوله أقوى حجة وهو مع ذلك مظلوم وبالقوارص مكلوم» (١٢). ومن بين العدد الضخم من مؤلفاته يذكر لنا ابن النديم عشرة منها فى الجغرافيا (١٣) ، فنبصر من بينها «كتاب تسمية من بالحجاز من أحياء العرب» و «كتاب قسمة الأرضين» و «كتاب الحيرة وتسمية البيع والديارات ونسب العباديين». وإذا كانت هذه التسميات تتعلق بجزيرة العرب على نمط اللغويين فثمة أخرى على ما يظهر تعالج موضوعا أوسع من ذلك وتبدى نواحى سيهتم العلماء كثيرا بمعالجتها فيما بعد ، فلديه «كتاب الأقاليم» ، ثم «كتاب البلدان الصغير وكتاب البلدان الكبير». ومعرفتنا بجميع أوجه النشاط العلمى لابن الكلبى يجعل من العسير علينا أن نفترض أن مادة هذه الكتب قد تجاوزت نطاق الجزيرة العربية ، غير أن عناوينها التى تذكرنا بالأدب التاريخى الجغرافى المتأخر تعطينا الحق فى افتراض ذلك. ونفس الحكم يصدق بصورة أقوى على عنوان كتابه الذى أورده ابن النديم وهو «كتاب العجائب الأربعة» ، فهو يذكرنا بجميع صنوف كتب العجائب التى ازدهرت عقب ذلك بفترة طويلة. ومن المغرى أن نفترض أن هذا الكتاب بالذات هو الذى نقل عنه الإدريسى كثيرا فى القرن الثانى عشر تحت اسمه المختصر «كتاب العجائب» مشيرا إلى اسم المؤلف على أنه حسن بن المنذر بدلا من هشام أبى المنذر. فإذا كان الأمر كذلك فإن ابن الكلبى إذا هو أول