ومن المعهود فى الأدب العربى تكرار أسماء الرسائل بحيث يضحى من العسير القول هل نحن أمام مصنف مستقل أم رواية جديدة لمصنف سابق. ويمثل بعض الأهمية مصنف لمعاصر للدينورى هو اللغوى ابن لغزى الأصفهانى (قبل عام ٢٨٢ ه ـ ٨٩٥) (٣٣) بعنوان «كتاب مياه وجبال وبلاد جزيرة العرب». وكما هو متوقع فإن المعلومات الجغرافية كما يتضح من وصف المخطوطة الوحيدة المعروفة (٣٤) لهذا الأثر يصحبها شواهد من الشعر القديم.
هذا النمط المتشابه للمصنفات الجغرافية للغويين المكرسة لجريرة العرب وحدها بدأ يطرأ عليه التغيير منذ النصف الثانى للقرن التاسع فشمل مضمونه بلادا وأقطارا أخرى ، الأمر الذى ظهرت تباشيره عند ابن الكلبى كما مر بنا ؛ كما أخذت تتغير أيضا العناوين وظهرت بالتدريج أنماط لم تلبث أن أصبحت الغالبة والمسيطرة بمرور الزمن. وأحيانا قد تكون المعلومات الموجودة بين أيدينا طفيفة للغاية ولكنها رغما من ذلك لا تخلو من بعض الفائدة ؛ فأحد لغويى النصف الثانى من القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادى) وهو وكيع القاضى الذى وضع رسالة فى الأنواء (٣٥) يقال عنه أيضا «وله من الكتب ... كتاب الطريق ويعرف أيضا بالنواحى ويحتوى على أخبار البلدان ومسالك الطرق ولم يتمه» (٣٦). وهنا يتضح لنا من مضمون الكتاب بل ومن عنوانه ظهور اتجاه جديد فى التأليف الجغرافى.
أما كبار العلماء فإنهم بالطبع لم يحصروا نشاطهم فى حدود ضيقة كاللغويين ، فعالم كالجاحظ (توفى عام ٢٥٥ ه ـ ٨٦٩) (٣٧) تنعكس فى مادته الجغرافية شخصيته الأدبية الفريدة بما تمتاز به من سعة الأفق وتنوع الموضوعات التى يطرقها وملاحظاته الفنية الدقيقة ؛ ولكنه من جهة أخرى كما هو معهود فيه يفتقر إلى الترتيب ، هذا إلى جانب ميله المعروف إلى الإمتاع على حساب الفائدة. وتقدم لنا مؤلفات الجاحظ العديدة فى الأدب مادة جغرافية ضخمة ؛ ويكفى أن نشير فى هذا الصدد إلى كتابه الكبير «كتاب الحيوان» الذى يحفل بالكثير فى الجغرافيا الحيوانية والانثر وبولوجيا والاثنوغرافيا على الرغم من غلبة الموضوعات الأدبية عليه ؛ وقد أصبح من الممكن الآن بفضل العرض الموجز لمحتويات الكتاب الذى قام به آسين بلاسيوس Asin Palacios (٣٨) أن يخوض الباحث فى خضمه المتضارب دون كبير عناء. أما مصنف الجاحظ فى الجغرافيا فلم يعثر عليه إلى الآن ومن ثم فليس من الممكن الحكم عليه إلا مما نقله عنه الآخرون ؛ أضف إلى هذا أن عنوانه غير معروف لنا بالضبط ولعل أقربها إلى الصحة هو العنوان الذى يورده المسعودى وهو «كتاب الأمصار وعجائب البلدان» (٣٩). ويقابلنا أحيانا عنوان «كتاب البلدان» (٤٠) و «كتاب الأمصار» (٤١) ؛ أما الشذرة المحفوظة فى إحدى مخطوطات المتحف البريطانى فتحمل اسم «كتاب الأوطان والبلدان» (٤٢) وهو عنوان لا يقرب كثيرا من الواقع. ويتضح مما نقله عنه ياقوت أن الجاحظ قد تابع إلى حد ما نمط ما يسمى بالفضائل أو الخصائص الذى ازدهر فى العصر الأموى ، أى صفات ومحاسن الحواضر الكبرى ، حيث يدور الكلام أحيانا عن مواطنيها أكثر مما يدور عن