لقد حاول البعض أن يعتبر رحلة سلام أسطورة خيالية وكفى ، ولكن يجب ألا يغيب عن بالنا أن مصادر الأساطير الجغرافية فى الأدب العربى توجد فى ميدان غير هذا ، فهى ترتبط بالأقاصيص والحكايات البحرية عن بلدان الشرق كالهند وأرخبيل الملايو أو بلدان الغرب خاصة سواحل أفريقيا الشرقية. وقد بدأت هذه الأقاصيص تزدهر فى القرن التاسع فى موانى الخلافة كالبصرة وسيراف وعلى وجه خاص فى العاصمة بغداد. ونادرا ما أودع القصاصون حكاياتهم بطون الأسفار ، فهى فى الغالب وصلتنا بأقلام شخصيات أخرى كانت أحيانا من معاصريهم أو من ممثلى الأجيال التالية لهم.
ويبدأ سلسلة القصاصين المعروفين لنا «التاجر سليمان» الذى لا يعرف عنه أكثر من أن قصصه ترجع إلى حوالى عام ٢٣٧ ه ـ ٨٥١. وهو قد سافر مرارا بغرض المتاجرة إلى الهند والصين ؛ ويصف الطريق بدرجة من الدقة مكنت فبران Ferrand من أن يتتبعه على الخارطات الحديثة (١٧٧). وهو خير مثال للتجار العرب والفرس الذاهبين إلى الصين ، وقد أبحر من سيراف إلى مسقط على ساحل الجزيرة العربية ومن هناك إلى كلم على ساحل ملبار ، ثم ممر بمضيق تالك شمال جزيرة سيلان وعبر خليج البنغال فوصل إلى جزيرة لنجبالوس (إحدى جزر نيكوبار). ثم تقدم إلى كله بره على ساحل الملايو الغربى ومن هناك إلى جزيرة تيومن الواقعة إلى الجنوب الغربى من ملقا ، ومنها إلى رأس القديس يعقوب قرب سايجون ، ومن هناك إلى جزيرة هاينان فعبر المضيق الذى يفصلها عن أرض الصين ليصل إلى ميناء خانفو أو كانتون الحديثة بالصين. وكانت الرحلة البحرية من مسقط إلى الصين تستغرق أكثر من أربعة أشهر (١٧٨). ولم يقتصر سليمان فى وصفه على ذكر المراحل ، أو «البربلوس (١) Periplus كما تقول اليونان ، وتقدير المسافات بالأيام وأحيانا بالفراسخ بل ترك أيضا وصفا حيا للسواحل والجزر والموانى المختلفة والمدن وسكانها والمحاصيل والمنتجات وسلع التجارة ؛ كما ثبت أن المعلومات التى أوردها عن كانتون تتميز بالتفصيل والدقة. ونظرا لعدم وجود أية معلومات عن سليمان نفسه فإن بعض كبار علماء الصينيات (Sinologists) مثل يول Yule وپليوPelliot قد تشككوا فى نسبة القصص إليه ، كما ظهر رأى آخر يقول بأن هذه القصص لعربى زار الهند ؛ ومن الملاحظ أنه لا ترد فيها إشارة إلى سليمان إلا مرة واحدة (١٧٩). غير أن فيران (١٨٠) قد لفت الأنظار إلى أن ابن الفقيه ينسب القصص صراحة إلى سليمان ، (١٨١) ولهذا فإن مسألة تأليفه لها لا يحوم حولها أدنى شك حتى بعد مرور خمسين عاما على وفاته. وقد أضاف إلى القصص المنسوبة إلى سليمان ، وذلك بعد عشرين عاما من هذا ، رحالة آخر هو ابن وهب (١٨٢) الذى يرجع نسبه إلى قريش وكان من الأعيان الأثرياء فلما سقطت البصرة فى يد ثوار
__________________
(*) لفظ «بربلوس» Periplus معناها باليونانية دورة ملاحية (Circumnavigation) ، وقد أطلق اللفظ على رسائل فى الملاحة يصف فيها اليونان سواحل البحار المختلفة. ومن أهم ما تبقى لنا منها هو «بربلوس البحر الأحمر» Periplus Mare Erythraeum الذى يرجع إلى القرن الأول الميلادى. (المترجم)