عندما أراد وضع قائمة باسماء الاندلسيين الذين رحلوا إلى المشرق فى طلب العلم وحده وليس بغرض التجارة أو الحج ، معترفا رغما عن ذلك بأنه لم يستوعب كل الأسماء (١). ويزيد فى الاهتمام بالأدب الجغرافى أحيانا طابعه الفنى الحى ، ويكفى أن نتذكر فى هذا الصدد مصنفات من طراز أسفار السندباد ، تلك القصص الجغرافية الفريدة فى نوعها.
ويمكن بوجه عام تمييز اتجاهين أساسيين فى الأدب الجغرافى العربى ، فهو من ناحية يولى وجهه شطر العلوم ، أعنى العلوم الدقيقة وذلك بالمعنى الذى نفهمه حاليا إذا ما أردنا تحديد علم الجغرافيا ؛ ومن ناحية أخرى فهو يولى وجهه شطر الأدب الفنى بالغا ببعض آثاره فى هذا المجال ذروة الإبداع. وقد أدرك العرب أنفسهم هذا الطابع المزدوج لعلم الجغرافيا وبينوه بدقة فى تصنيفهم للعلوم. وهم قبل أن يتوصلوا إلى وضع التصنيف على أسس منطقية صارمة ، بل وقبل أن يتعرفوا على نظام التصنيف الثلاثى Trivium (النحو والبيان والجدل) والرباعى Quadrivium (الحساب والهندسة والفلك والموسيقى) (٢) الذى ساد بالتالى فى أوروبا الوسيطة ، أقول قبل هذا قسم العرب العلوم من وجهة نظرهم الخاصة معتمدين فى ذلك على سير تطورها التاريخى. ففى العهد الإسلامى قسمت العلوم إلى «العلوم القديمة» و «العلوم الحديثة» (٣). فالمجموعة الأولى (وهى اللغة والكلام والفقه والتاريخ) أرجعوا نشأتها إلى العصر الأموى ، أما الثانية (وهى الفلك والرياضة والطب والفلسفة) فإلى العصر العباسى. وقد ضموا الجغرافيا إلى العلوم الدقيقة ، أقرب ما يكون إلى الفلك. وهم لم يتنكبوا الصواب فى ذلك ، ففى الواقع نشأت الجغرافيا الرياضية والفلكية بين ظهرانيهم فى نهاية القرن الثامن أو بداية التاسع الميلادى نتيجة لتعرفهم واتصالهم بالعلوم الهندية أولا ثم اليونانية بعد ذلك حيث طغت فى الأخيرة على جميع المؤثرات شخصية بطلميوس Ptolemaeus (١) بمصنفاته الفلكية الجغرافية. ومنذ ذلك الوقت سار تطور الجغرافيا العلمية عند العرب من غير توقف إلى العصور المتوسطة الأخيرة ، محتفظة على الدوام بصلتها بتقاليد المصنفات الأولى فى هذا الميدان.
وفى موازاة هذا الاتجاه وجد اتجاه آخر تشكل معه فى وقت واحد ، بل وربما تشكل قبله تبعا لبعض المصادر ، أعنى منهج الجغرافيا الوصفية التى يرتبط بها ارتباطا وثيقا قصص الرحلات. وهو من بعض الوجوه ، خاصة فى بداية ظهوره ، يرتبط بعلوم الشريعة وباللغة ثم بالأدب الفنى ، الأمر الذى لم يحل بالطبع دون تشبعه بين آونة وأخرى بالجغرافيا العلمية. ولكن يجب الاعتراف بأن المنهج الثانى ، أى منهج الجغرافيا الوصفية ، هو الذى يسترعى النظر بغزارة مادته وهو الذى يغلب على الأدب الجغرافى العربى ويسبغ عليه طابعه المميز ويعطيه شكله الخاص به مما يصعب إيجاد مثيل له فى آداب الأمم الأخرى. وهذا الطابع المتنوع ، أقول بل هذا التلون فى الأدب الجغرافى العربى ،
__________________
(*) هذه هى الطريقة الصحيحة لكتابة هذا الاسم ، أى أن تسبق الميم الياء لا العكس. (المترجم)