يضحى أكثر فهما لنا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار العوامل العديدة التى عاونت على انبعاثه وظهوره.
لقد أدى اتساع رقعة أراضى الخلافة الإسلامية وتدعيم سلطانها فى القرنين الثامن والتاسع إلى ظهور مهام إدارية عديدة خاصة فى محيط الشئون المالية والخراج. وبالطبع كان بمقدور العرب الإفادة من النظم السابقة لهم وهو ما حدث بالفعل ، ففى إيران استطاعوا الإفادة من سجلات خسرو أنوشروان (٥٣١ ـ ٥٧٩) فى مسح الأراضى ؛ وفى مصر نسجوا على منوال النظام البيروقراطى البيزنطى. بيد أن ظروف الأحوال الجديدة استلزمت بدورها جمع معلومات دقيقة محققة عن تقسيم الولايات وعن الأماكن المأهولة والمحاصيل الزراعية والصناعية وتقدير الخراج والضرائب عينية ونقدية. ولهذا الغرض ظهرت كتب خاصة هى «كتب الخراج» التى قصد بها فى أول الأمر إرشاد عمال الخراج ولكنها لم تلبث أن أصبحت فى متناول أيدى الجميع. هذا وقد تطلبت المركزية فى النظام الإدارى الذى تجمعت خيوطه فى بغداد شق طرق جيدة للمواصلات واستيفاء معلومات دقيقة عن تلك الطرق مع تعداد المراحل ومنازل البريد وتحديد المسافات وظروف السفر. ومن أوائل المصنفات التى وصلت إلينا فى هذا كتاب وضعه عامل للبريد بإحدى ولايات الخلافة الهامة.
ثم إن مصالح الدولة ، التى أصبحت أكبر قوة عالمية لذلك العهد ، حالت دون اكتفائها بمعرفة أراضيها وحدها ، بل كان من الضرورى أن تحصل على معلومات دقيقة عن الأقطار الأخرى خاصة المتاخمة لها. وقد ساعد على هذا الحرب والسلم معا ، فالمعلومات قد أتت بها السفارات وأسرى الحرب العائدون إلى أوطانهم ؛ ولأحد هؤلاء ممن كانوا فى أسر البيزنطيين ندين بأول معلومات للعرب لا عن بيزنطة وحدها بل أيضا عن جيرانها من الصقالبة وغيرهم من سكان جنوبى روسيا.
وقد اتخذت الرحلات طابعا جم الحيوية والنشاط منذ القرون الأولى للخلافة ، وكما هو معلوم فإن من فروض الإسلام حج البيت لمن استطاع إليه سبيلا ، أى إذا ساعدت الظروف وكانت الطرق مسلوكة. كما استخدمت التجارة الطرق البرية والبحرية على السواء وتأتّى من هذا ربط أقاصى أراضى الخلافة ببعضها البعض ، بل إن التجارة تجاوزت تلك الحدود فجذبت فى فلكها أواسط أفريقيا وشمال شرقى أوروبا وجنوب شرق آسيا ؛ وهى التى ابتدعت تلك الشخصية الخالدة شخصية السندباد البحرى الذى ترتبط أسفاره بالأدب الجغرافى ارتباطا أوثق مما كان يظن من قبل. وهكذا ساعد الدين والتجارة على توسيع مدى الأسفار ، كما ساعد فى هذا المضمار أيضا التعليم ، فقد جاء فى الحديث الشريف «اطلبوا العلم ولو بالصين» ، فأصبح الارتحال فى طلب العلم منذ القرن الأول للهجرة أشبه بالضرورة اللازمة لتكملة «دورة الدراسة». ففى طلب العلم رحل الناس من الأندلس إلى بخارى ومن بغداد إلى قرطبة ، ويكفى أن نشير فى هذا الصدد إلى مثال فقيه أندلسى من القرن الثانى عشر هو أسعد الخير الأنصارى الأندلسى (المتوفى عام ٥٤١ ه ـ ١١٤٦ م) الذى نعت بالصينى لارتحاله إلى