ثم شرح كل مثال واختصر ولم يذكر الأسباب المفيدة ولا أوضح الأمور النافعة فى التفصيل والترتيب وترك كثيرا من أمّهات المدن فلم يذكرها وما دوّخ البلدان ولا وطئ الأعمال ألا ترى أن صاحب خراسان استدعاه إلى حضرته ليستعين به فلما بلع جيجون كتب إليه إن كنت استدعيتنى لما بلغك من صائب رأيى فإن رأيى يمنعنى من عبور هذا النهر ، فلما قرأ كتابه أمره بالخروج إلى بلخ» (٤).
ومن العسير بالطبع استخلاص أية تفصيلات من مثل هذا التحليل الموجز ؛ ويمكن فقط الإحاطة قليلا أو كثيرا بالشكل العام لكتاب البلخى من خلال التعديلات المتأخرة التى أدخلت عليه والتى يكتنف تاريخها غموض شديد. ومن الملاحظات التى أبداها المقدسى فى مواضع أخرى يمكن الوصول إلى أن أصل كتاب البلخى كان نادرا حتى فى عصره (٥) ؛ وعلى الرغم من معرفة ياقوت بوجوده إلا أنه يقتصر على الإشارة إلى الإصطخرى وحده تقريبا ، ولعله قد وجدت فى يده مسودة واحدة للكتاب (٦) فاعتبر أجزاء متفرقة منها فقط قديمة وترجع إلى البلخى. وقد ثبت بعد الفحص الدقيق أن بعض المخطوطات التى نسبت فى فهارس المخطوطات أو حتى فى الأصل إلى البلخى إنما تمثل فى الحقيقة مسودات لمصنف الإصطخرى أو ابن حوقل (٧).
وتوجد مادة غزيرة فى متناول اليد للحكم على المصنفين الأخيرين. فإلى جانب المخطوطات الفريدة التى اعتمد عليها دى خويه فى إعداد طبعته فقد شهدت الأعوام الأخيرة الكشف على ما لا يقل عن اثنتى عشرة مخطوطة (٨) باستنبول وحدها ، بعضها قديم جدا ؛ وكلها توكد ازدياد الحاجة إلى طبعة جديدة للأجزاء الأولى من «مكتبة الجغرافيين العرب». وعلى النقيض من وفرة المادة فيما يتعلق بالمخطوطات فإن معلوماتنا عن المؤلفين لا تزال شحيحة كما كان عليه الحال من قبل ، وعلى أية حال فأقل كثيرا مما هو الشأن مع البلخى. هذا ويمكن أن نستنبط من اسم الأول منهما وهو أبو إسحق الفارسى الإصطخرى أنه من إيران الوسطى ؛ ويتضح من مطالعة كتابه أنه قد سافر كثيرا فزار بلاد ما وراء النهر وإيران وجزيرة العرب والشام ومصر. وقد عنون كتابه على الطريقة القديمة «كتاب المسالك والممالك» وأنهى أول مسودة له وأبو زيد البلخى على قيد الحياة وذلك حوالى عام ٣١٨ ه ـ ٣٢١ ه ـ ٩٣٠ ـ ٩٣٣ ، غير أن كتابه قد انتشر فى الشرق بوجه خاص على هيئة طوامير ترتفع إلى المسودة التى عملت حوالى عام ٣٤٠ ه ـ ٩٥٠ (١).
والإصطخرى كغيره من جغرافيى هذه المدرسة يقتصر على وصف العالم الإسلامى وحده مقسما إياه إلى عشربن إقليما ، لا بالمعنى المعروف لنا عن الأقاليم كأحزمة عريضة تضم عددا من درجات العرض (Klimata) ، بل كمناطق جغرافية واسعة أو ولايات (Regions). ويلى الكلام العام عن «الربع المعمور» وأبعاده وعن البحار وصف جزيرة العرب وبحر فارس (مع المحيط الهندى) والمغرب (مع
__________________
(*) ظهرت طبعة جديدة لكتاب الإصطخرى بالقاهرة منذ وقت قصير. (المترجم)